لم يكن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بحاجة إلى محاولة انقلاب ليعلن حالة الطوارئ في البلاد. فتركيا في حالة انقلاب على الديموقراطية، وفي حالة طوارئ عملية منذ أكثر من خمس سنوات، تاريخ بدء العد العكسي لتطبيق نظام «الزعيم الأوحد» الذي كان مطبقاً في عهد مصطفى كمال اتاتورك.

 النضال من اجل ديموقراطية أكبر وحريات أكثر و «عسكريتاريا» أضعف ذهب بالأمس هباءً منثوراً. والإسلاميون الذين عانوا مع الأكراد أكثر من غيرهم من فترات حكم العسكريين، لم يجدوا سوى استنساخ النموذج الذي حاربوه من أجل إطالة مدة حكمهم.

 ما كان سيفعله الانقلابيون، فعله اردوغان، كما لو ان المحاولة الانقلابية نجحت.

حال الطوارئ مطبقةٌ ضمناً منذ سنوات عدة، لكن الإعلان عنها رسمياً حصل الأربعاء. فالمسارات الداخلية كانت تنسجم مع أحكام حال الطوارئ. كمُّ الأفواه وسجن الصحافيين واقتلاعهم من اماكن عملهم بمكالمة هاتفية من الرئيس التركي نفسه مع رئيس التحرير او رب العمل. حظر مواقع الانترنت. التضييق على الحرية الشخصية. حرب مفتوحة ضد الأكراد في المدن التركية. تعليق العمل باستقلالية السلطات القضائية وإخضاعها لهيمنة السلطة السياسية.

اما الانتهاك الأكبر للدستور والقوانين، فهو إعلان اردوغان نفسه بعد انتخابات السابع من حزيران من العام الماضي أن على الجميع ان يعرف ان النظام السياسي في تركيا قد تغير منذ انتخابه رئيساً للجمهورية في آب 2014 لجهة انه أصبح نظاماً رئاسياً. وليس أبلغ من هذا التصريح ليدرك المراقبون ان تركيا لا يحكمها القانون منذ سنوات، بل حال طوارئ تكاد تصل إلى احكام عرفية.

قبل إعلان حال الطوارئ، لم يكن بقي أحد في منصبه في القطاعات العسكرية والقضائية والتعليمية والنقابية. حملةُ تطهير شاملة تقودها «محاكم تفتيش» أعدّت مسبقاً قوائم ضحاياها، تهدف إلى إعادة تشكيل البناء الاجتماعي والسياسي لتركيا وطيّ صفحة بعض إنجازات المرحلة العلمانية وبعض إصلاحات السنوات الأولى من حكم حزب «العدالة والتنمية».

انتهى كل شيء، وتركيا التي كانت تُمثِّل بعضَ الأمل في نموذج يُقدّم للعالم الإسلامي تحولت إلى بلد أسوأ من عالم ثالثي. طويت صفحة تعزيز الديموقراطية التي لم يكن قد بقي منها سوى «ورقة توت» الاقتراع. طويت صفحة تعزيز العلمانية بعدما انهال الرعاع بهتافات «داعشية» وأسواط وسكاكين على الجنود، وبعدما انطلقت من جديد اوسع حملة تهديد وترويع للشرائح العلوية في المجتمع. أما الأكراد، فليس لهم بعد الآن سوى الصبر وانتظار معجزة تنقذهم من شرّين مستطيرين: حكم العسكر او حكم الديكتاتورية المدنية. وهم يدركون جيداً ان إعادة الحكم بالإعدام ربما لن توفر حياة قائدهم المعتقل عبد الله أوجلان، لذا فإن الحملة للدفاع عنه والاطمئنان على وضعه الصحي في المعتقل بدأت في تركيا وفي الخارج.

الكل يتحدث عن حالة الاحتقان والتشرذم في المجتمع. والاستقطاب الذي تشهده تركيا لا مثيل له في تاريخها. في أسوأ الأيام العسكرية، لم يصل عدد المعتقلين الى 50 ألفاً، وربما العدد أكبر من ذلك بكثير.

كان العسكر بعد كل انقلاب يعتقل اليساريين وبعض الإسلاميين. لكن النظام الحاكم اليوم يخوض مواجهات مفتوحة مع الجميع: ضد شركائه السابقين في التيار الاسلامي، وضد رفاقه السابقين في حزب «العدالة والتنمية» وضد شرائح عسكرية داخل الجيش وضد اكراد مثبتين دوماً على لوائح الارهاب وضد علمانيين لم يعرفوا كيف يحافظون على علمانيتهم لأنهم طبقوها هم بصورة هجينة قبل أن يسعى ورثة الاتحاد والترقي اليوم لاستئصالها من الوجود.

الكلُّ اليوم في تركيا ضد الكل. المدنيون ضد العسكر والشرطة ضد العسكر والعسكر ضد العسكر والسلطة ضد الدولة والشارع ضد الشارع. فعن أي تركيا جديدة يمكن التحدث؟. لو ان الانقلاب نجح لربما كانت المعركة الداخلية واضحة المعالم ومحدودة. لكن فشل الانقلاب كان السيناريو الأسوأ من بين كل السيناريوهات الأخرى. فشلٌ أدخل تركيا مرحلة من المخاطر لا تقاس بماضيها. عهد جديد من التصفيات والشبهات والشكوك - «يوم يفر الأخ من أخيه ويحذر الابن من أبيه».

ولم يكن أردوغان بحاجة إلى انقلاب عسكري ليؤكد ان سياساته الخارجية السابقة مستمرة، وأن ما حكي عن تغيير جدي ليس سوى أضغاث أحلام. صحيحٌ ان الانقلاب العسكري الأخير سوف يشغله بعض الشيء عن الاستمرار بالزخم ذاته في سياساته الخارجية السابقة، لكن مواقفه الأخيرة تؤكد ما ذكرناه قبل اسبوعين من أن استدارته مع اسرائيل واستدارته مع روسيا ليست سوى «استدارات تكتيكية» من أجل استجماع قوته من جديد في اتجاه الهدف المركزي، وهو تحسين شروط مواجهته ضد دمشق والرئيس السوري بشار الأسد. بالأمس، كرر أردوغان المعزوفة ذاتها، من ان بشار الأسد «قاتل» ومن أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي انقلابي.

فشل الانقلاب أضاف تعقيداً على العلاقات التركية - الأميركية بمعزل عما إذا كانت اميركا متورطة ام لا. ستكون لعبة الكباش بين الطرفين اللذين لن ينتهيا منها سوى بانتصار واحد على الآخر. وتركيا في وضع المشاغب إلا في حالة واحدة وهي التشبه بإيران وتغيير جذري باستراتيجيتها وهذا مستبعد جداً. لذا فإن الغلبة لن تكون إلا للسيد على عبده الذي أراد ان يتمرد لا لمصالح أمة بل لرهانات امبراطورية واهمة فكانت النتيجة تخبطاً وغرقاً في مستنقع المذهبية والعنصرية الإتنية والإيديولوجية الإلغائية التي لم يتأخر رموزها في ان يعلنوا استعدادهم ليكونوا ليس فقط حريماً للسلطان الأناضولي بل أن يكزنزا جواري وخدما. هكذا مثلاً يعلنها خالد مشعل في تغريدته وهو يعرف جيداً ان من يبايعه ويريد ان يكون خادماً عنده ليس سوى زعيم دولة اطلسية تربطها بإسرائيل، التي يفترض ان تكون عدواً للفلسطينيين، علاقات تحالفية استراتيجية.

لن يُصلح عطّار التصفيات ما أفسده دهر الحسابات الإلغائية الخاطئة. وتركيا لن تكون سوى البلد الذي أتقن صناعة الأعداء في الداخل والخارج لتدخل في فوضى مفتوحة تختزن كل الاحتمالات العنفية.

أردوغان ـ غولن: حرب الشريكين

ليس فتح الله غولن استثناءً في تاريخ الحركة الاسلامية المعاصرة. فالوريث الأبرز للمدرسة النورسية بعد وفاة مؤسسها بديع الزمان سعيدي نورسي في العام 1960 انتهج خط الاسلام الاجتماعي. لم ينزل الى الميدان السياسي المباشر وفضل تقوية دعائم الاسلام الاجتماعي بامبراطورية من المدارس والجامعات والمؤسسات الاعلامية داخل تركيا وخارجها تؤمن بالبعد القومي التركي والتوجه الاسلامي.

فكان هنا خير منافس لمؤسس الاسلام السياسي نجم الدين أربكان. من هنا نسج غولن علاقات ملتبسة مع الدولة وأحزاب اليمين المحافظ، ونجح أن يجد موطئ نفوذ له داخل المؤسسات ومنها المؤسسة العسكرية.

لكن انقلاب 28 شباط 1997 ضد أربكان كان نقطة الافتراق عن «الدولة العميقة». فالفوبيا من الحركة الاسلامية التي كان يمثلها أربكان دفعت الجيش للتشدد ووضع كل الاسلاميين بمن فيهم غولن في كفة واحدة، واضطرت غولن للخروج من تركيا عام 1999 الى اميركا هرباً من حملة العسكر عليه. فكان ذلك بداية لشراكة بين غولن وتلميذ أربكان، رجب طيب أردوغان، لكن بعد ان انقلب التلميذ على أستاذه. شراكة نجحت في ان تحقق انتصاراً ساحقاً في انتخابات 2002 على يد حزب «العدالة والتنمية».

شراكة أردوغان - غولن واصلت تحقيق المكاسب في الانتخابات النيابية والبلدية اللاحقة. ما زاد من نفوذ الأخير في الدولة ومدّ في عمر اردوغان في السلطة.

لكن مشروع أردوغان البعيد المدى اظهر رغبة في الاستئثار في الداخل جعلت الصدام حتمياً بينه وبين غولن كما مع رفاق دربه، من عبد الله غول وبولنت ارينتش، وأخيراً أحمد داود اوغلو. وفي الخارج كان المشروع الاردوغاني عثمانية جديدة تريد ترئيس تركيا على المنطقة، فكان الاصطدام مع الولايات المتحدة.

ومع إقامة غولن في أميركا واتهام أردوغان له بأنه وراء تفجير «انتفاضة غيزي» وفضيحة الفساد قبل سنتين، كانت الحرب الاردوغانية ضد ما سماه «الكيان الموازي» لغولن داخل الدولة. لكن اتهام اردوغان لغولن بالوقوف وراء الانقلاب العسكري الأخير ادخل العلاقة بينهما في تساؤلات كبيرة وخطيرة عما إذا كان هناك تعاون «غولني» مع الإدارة الأميركية: غولن للتخلص من ديكتاتورية اردوغان واستئثاره، واميركا لمنع اردوغان من الإمساك بالمنطقة. فهل كان غولن وراء الانقلاب وهل اميركا كانت على علم به؟ أسئلة لا تجد بعد جواباً واضحاً عليها ما يجعل العلاقات التركية - الأميركية في تجاذبات كبرى ويبقي الموقف الأميركي من تسليم غولن من عدمه بارومتر العلاقة المستقبلية بين واشنطن وأنقرة.

  • فريق ماسة
  • 2016-07-23
  • 12377
  • من الأرشيف

عن حرب الشريكين... وصراع الكل ضد الكل في تركيا....بقلم محمد نور الدين

لم يكن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بحاجة إلى محاولة انقلاب ليعلن حالة الطوارئ في البلاد. فتركيا في حالة انقلاب على الديموقراطية، وفي حالة طوارئ عملية منذ أكثر من خمس سنوات، تاريخ بدء العد العكسي لتطبيق نظام «الزعيم الأوحد» الذي كان مطبقاً في عهد مصطفى كمال اتاتورك.  النضال من اجل ديموقراطية أكبر وحريات أكثر و «عسكريتاريا» أضعف ذهب بالأمس هباءً منثوراً. والإسلاميون الذين عانوا مع الأكراد أكثر من غيرهم من فترات حكم العسكريين، لم يجدوا سوى استنساخ النموذج الذي حاربوه من أجل إطالة مدة حكمهم.  ما كان سيفعله الانقلابيون، فعله اردوغان، كما لو ان المحاولة الانقلابية نجحت. حال الطوارئ مطبقةٌ ضمناً منذ سنوات عدة، لكن الإعلان عنها رسمياً حصل الأربعاء. فالمسارات الداخلية كانت تنسجم مع أحكام حال الطوارئ. كمُّ الأفواه وسجن الصحافيين واقتلاعهم من اماكن عملهم بمكالمة هاتفية من الرئيس التركي نفسه مع رئيس التحرير او رب العمل. حظر مواقع الانترنت. التضييق على الحرية الشخصية. حرب مفتوحة ضد الأكراد في المدن التركية. تعليق العمل باستقلالية السلطات القضائية وإخضاعها لهيمنة السلطة السياسية. اما الانتهاك الأكبر للدستور والقوانين، فهو إعلان اردوغان نفسه بعد انتخابات السابع من حزيران من العام الماضي أن على الجميع ان يعرف ان النظام السياسي في تركيا قد تغير منذ انتخابه رئيساً للجمهورية في آب 2014 لجهة انه أصبح نظاماً رئاسياً. وليس أبلغ من هذا التصريح ليدرك المراقبون ان تركيا لا يحكمها القانون منذ سنوات، بل حال طوارئ تكاد تصل إلى احكام عرفية. قبل إعلان حال الطوارئ، لم يكن بقي أحد في منصبه في القطاعات العسكرية والقضائية والتعليمية والنقابية. حملةُ تطهير شاملة تقودها «محاكم تفتيش» أعدّت مسبقاً قوائم ضحاياها، تهدف إلى إعادة تشكيل البناء الاجتماعي والسياسي لتركيا وطيّ صفحة بعض إنجازات المرحلة العلمانية وبعض إصلاحات السنوات الأولى من حكم حزب «العدالة والتنمية». انتهى كل شيء، وتركيا التي كانت تُمثِّل بعضَ الأمل في نموذج يُقدّم للعالم الإسلامي تحولت إلى بلد أسوأ من عالم ثالثي. طويت صفحة تعزيز الديموقراطية التي لم يكن قد بقي منها سوى «ورقة توت» الاقتراع. طويت صفحة تعزيز العلمانية بعدما انهال الرعاع بهتافات «داعشية» وأسواط وسكاكين على الجنود، وبعدما انطلقت من جديد اوسع حملة تهديد وترويع للشرائح العلوية في المجتمع. أما الأكراد، فليس لهم بعد الآن سوى الصبر وانتظار معجزة تنقذهم من شرّين مستطيرين: حكم العسكر او حكم الديكتاتورية المدنية. وهم يدركون جيداً ان إعادة الحكم بالإعدام ربما لن توفر حياة قائدهم المعتقل عبد الله أوجلان، لذا فإن الحملة للدفاع عنه والاطمئنان على وضعه الصحي في المعتقل بدأت في تركيا وفي الخارج. الكل يتحدث عن حالة الاحتقان والتشرذم في المجتمع. والاستقطاب الذي تشهده تركيا لا مثيل له في تاريخها. في أسوأ الأيام العسكرية، لم يصل عدد المعتقلين الى 50 ألفاً، وربما العدد أكبر من ذلك بكثير. كان العسكر بعد كل انقلاب يعتقل اليساريين وبعض الإسلاميين. لكن النظام الحاكم اليوم يخوض مواجهات مفتوحة مع الجميع: ضد شركائه السابقين في التيار الاسلامي، وضد رفاقه السابقين في حزب «العدالة والتنمية» وضد شرائح عسكرية داخل الجيش وضد اكراد مثبتين دوماً على لوائح الارهاب وضد علمانيين لم يعرفوا كيف يحافظون على علمانيتهم لأنهم طبقوها هم بصورة هجينة قبل أن يسعى ورثة الاتحاد والترقي اليوم لاستئصالها من الوجود. الكلُّ اليوم في تركيا ضد الكل. المدنيون ضد العسكر والشرطة ضد العسكر والعسكر ضد العسكر والسلطة ضد الدولة والشارع ضد الشارع. فعن أي تركيا جديدة يمكن التحدث؟. لو ان الانقلاب نجح لربما كانت المعركة الداخلية واضحة المعالم ومحدودة. لكن فشل الانقلاب كان السيناريو الأسوأ من بين كل السيناريوهات الأخرى. فشلٌ أدخل تركيا مرحلة من المخاطر لا تقاس بماضيها. عهد جديد من التصفيات والشبهات والشكوك - «يوم يفر الأخ من أخيه ويحذر الابن من أبيه». ولم يكن أردوغان بحاجة إلى انقلاب عسكري ليؤكد ان سياساته الخارجية السابقة مستمرة، وأن ما حكي عن تغيير جدي ليس سوى أضغاث أحلام. صحيحٌ ان الانقلاب العسكري الأخير سوف يشغله بعض الشيء عن الاستمرار بالزخم ذاته في سياساته الخارجية السابقة، لكن مواقفه الأخيرة تؤكد ما ذكرناه قبل اسبوعين من أن استدارته مع اسرائيل واستدارته مع روسيا ليست سوى «استدارات تكتيكية» من أجل استجماع قوته من جديد في اتجاه الهدف المركزي، وهو تحسين شروط مواجهته ضد دمشق والرئيس السوري بشار الأسد. بالأمس، كرر أردوغان المعزوفة ذاتها، من ان بشار الأسد «قاتل» ومن أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي انقلابي. فشل الانقلاب أضاف تعقيداً على العلاقات التركية - الأميركية بمعزل عما إذا كانت اميركا متورطة ام لا. ستكون لعبة الكباش بين الطرفين اللذين لن ينتهيا منها سوى بانتصار واحد على الآخر. وتركيا في وضع المشاغب إلا في حالة واحدة وهي التشبه بإيران وتغيير جذري باستراتيجيتها وهذا مستبعد جداً. لذا فإن الغلبة لن تكون إلا للسيد على عبده الذي أراد ان يتمرد لا لمصالح أمة بل لرهانات امبراطورية واهمة فكانت النتيجة تخبطاً وغرقاً في مستنقع المذهبية والعنصرية الإتنية والإيديولوجية الإلغائية التي لم يتأخر رموزها في ان يعلنوا استعدادهم ليكونوا ليس فقط حريماً للسلطان الأناضولي بل أن يكزنزا جواري وخدما. هكذا مثلاً يعلنها خالد مشعل في تغريدته وهو يعرف جيداً ان من يبايعه ويريد ان يكون خادماً عنده ليس سوى زعيم دولة اطلسية تربطها بإسرائيل، التي يفترض ان تكون عدواً للفلسطينيين، علاقات تحالفية استراتيجية. لن يُصلح عطّار التصفيات ما أفسده دهر الحسابات الإلغائية الخاطئة. وتركيا لن تكون سوى البلد الذي أتقن صناعة الأعداء في الداخل والخارج لتدخل في فوضى مفتوحة تختزن كل الاحتمالات العنفية. أردوغان ـ غولن: حرب الشريكين ليس فتح الله غولن استثناءً في تاريخ الحركة الاسلامية المعاصرة. فالوريث الأبرز للمدرسة النورسية بعد وفاة مؤسسها بديع الزمان سعيدي نورسي في العام 1960 انتهج خط الاسلام الاجتماعي. لم ينزل الى الميدان السياسي المباشر وفضل تقوية دعائم الاسلام الاجتماعي بامبراطورية من المدارس والجامعات والمؤسسات الاعلامية داخل تركيا وخارجها تؤمن بالبعد القومي التركي والتوجه الاسلامي. فكان هنا خير منافس لمؤسس الاسلام السياسي نجم الدين أربكان. من هنا نسج غولن علاقات ملتبسة مع الدولة وأحزاب اليمين المحافظ، ونجح أن يجد موطئ نفوذ له داخل المؤسسات ومنها المؤسسة العسكرية. لكن انقلاب 28 شباط 1997 ضد أربكان كان نقطة الافتراق عن «الدولة العميقة». فالفوبيا من الحركة الاسلامية التي كان يمثلها أربكان دفعت الجيش للتشدد ووضع كل الاسلاميين بمن فيهم غولن في كفة واحدة، واضطرت غولن للخروج من تركيا عام 1999 الى اميركا هرباً من حملة العسكر عليه. فكان ذلك بداية لشراكة بين غولن وتلميذ أربكان، رجب طيب أردوغان، لكن بعد ان انقلب التلميذ على أستاذه. شراكة نجحت في ان تحقق انتصاراً ساحقاً في انتخابات 2002 على يد حزب «العدالة والتنمية». شراكة أردوغان - غولن واصلت تحقيق المكاسب في الانتخابات النيابية والبلدية اللاحقة. ما زاد من نفوذ الأخير في الدولة ومدّ في عمر اردوغان في السلطة. لكن مشروع أردوغان البعيد المدى اظهر رغبة في الاستئثار في الداخل جعلت الصدام حتمياً بينه وبين غولن كما مع رفاق دربه، من عبد الله غول وبولنت ارينتش، وأخيراً أحمد داود اوغلو. وفي الخارج كان المشروع الاردوغاني عثمانية جديدة تريد ترئيس تركيا على المنطقة، فكان الاصطدام مع الولايات المتحدة. ومع إقامة غولن في أميركا واتهام أردوغان له بأنه وراء تفجير «انتفاضة غيزي» وفضيحة الفساد قبل سنتين، كانت الحرب الاردوغانية ضد ما سماه «الكيان الموازي» لغولن داخل الدولة. لكن اتهام اردوغان لغولن بالوقوف وراء الانقلاب العسكري الأخير ادخل العلاقة بينهما في تساؤلات كبيرة وخطيرة عما إذا كان هناك تعاون «غولني» مع الإدارة الأميركية: غولن للتخلص من ديكتاتورية اردوغان واستئثاره، واميركا لمنع اردوغان من الإمساك بالمنطقة. فهل كان غولن وراء الانقلاب وهل اميركا كانت على علم به؟ أسئلة لا تجد بعد جواباً واضحاً عليها ما يجعل العلاقات التركية - الأميركية في تجاذبات كبرى ويبقي الموقف الأميركي من تسليم غولن من عدمه بارومتر العلاقة المستقبلية بين واشنطن وأنقرة.

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة