ما جرى في الأيام الأخيرة في حلب يتعدى الحسابات الميدانية في ربح أو خسارة منطقة معيّنة. تطويق المدينة يُعدّ قراراً استراتيجياًَ يُسقط الرهانات على احتلال عاصمة سوريا الثانية.

 وإذا ما تم الحفاظ على ما تحقق، وتم تعزيزه، فإنه سيمثل بداية نهاية آمال أعداء دمشق بتحقيق نصر كبير شمالاً، كما يساهم في دفن حساباتهم في خلق «إقليم» عاصمته حلب، تديره تركيا و«أصدقاؤها».

 هذا الطوق، في حال تثبيته، يعني أنّ المعركة الأصعب بدأت تميل كفتها لمصلحة الجيش السوري وحلفائه. عملياً، تصبح أحياء المدينة الشرقية مطوّقة، بما فيها من آلاف المسلحين وعشرات غرف العمليات. والمناطق التي سيطر عليها الجيش وحلفاؤه كانت الممر الوحيد للإمداد من الريفين الغربي والجنوبي لحلب، وخلفهما إدلب وتركيا. القرار «الكبير» بفتح هذه المعركة، الموضوعة ضمن الخطوط الحمراء الأميركية، يأتي في سياق كلام السيد حسن نصرالله عندما أكّد منذ أسبوعين أنّ «المطلوب من الجميع أن يستعد، لأن المعركة الحقيقية الاستراتيجية الكبرى هي معركة حلب»، وهي «ضرورية لإفشال مشروع إقليمي ودولي يستهدف إسقاط هذا البلد (سوريا) عبر استقدام المقاتلين الأجانب إليه».

لم يكن تطويق مدينة حلب لقمة سائغة في يوم من الأيام. على مدى سنوات، كان الجيش السوري كلّما تقدّم خطوة لقطع طريق الكاستيلّو، يسارع المسلحون إلى التقاط أنفاسهم وتعويض خسائرهم، شمالي حلب.

بعد فكّ الحصار عن نبّل والزهراء وقطع الجيش وحلفائه لشريان أساسي يصل حلب المدينة بأعزاز فتركيا في شباط الماضي، أصبح العمل على تحقيق الطوق أكثر يسراً. لكن المهمة مع مرور الوقت لم تظهر بالسهولة ذاتها، فإلى جانب العامل العسكري كان العامل السياسي طاغياً في معظم الأحيان: اللعب في مدينة حلب ممنوع.

 عبارة أكّدها الأميركي مراراً و«استوعبها» الروسي بعده. فعلياً، حُيدّت حلب عن خارطة المبادرات العسكرية للجيش منذ اتفاق الهدنة نهاية شباط الماضي.

مركز حميميم شغّل عدّاد الخروقات اليومية، فيما كان الجيش والحلفاء يتراجعون من نقاط أساسية في ريف المحافطة الجنوبي. جاءت ضربة بلدة العيس وتلتها، ثم خان طومان وبضع قرى محيطة، ليستقرّ الخطر أمام بلدة الحاضر، حيث خسارتها تعني «التخلّي» عن جزء كبير من منجزات معارك ذاك الريف المتصل بإدلب وبطريق خناصر. سريعاً، احتوى المدافعون موجات «جيش الفتح» الكبيرة. عدد القتلى الضخم في صفوف المهاجمين، إضافة إلى تثبيت خطوط تماس متينة على محاور القتال، حميا الحاضر وأنهيا الاستنزاف في تلك المنطقة.

مرّت أيام، ولم تظهر أيّ مبادرة من المحور السوري. كان الكلام عن «الفيتو» الروسي لا يزال حاضراً رغم «تخفيفه» في لقاء طهران الشهير لوزراء دفاع سوريا وروسيا وإيران. جاء بعدها كلام السيد حسن نصرالله ليصوّب البوصلة: حلب أولاً.

جُمّدت معركة دير الزور، وأصبح كل جهد موظّف لخدمة المعركة الأم.

ومن المكان الأصعب في الميدان، جاء تقدم الجيش السوري وحلفائه في مزارع الملاح، لتتدحرج رقعة السيطرة فيها على مدى أسبوعين، لتكون الوحدات السورية على بعد 400 متر من طريق الكاستيلّو.

آلاف المسلحين في أحياء المدينة الشرقية أضحوا معزولين عن كامل الريف الغربي والجنوبي المتصل بإدلب ثم تركيا.

الخطوة الأخيرة لم تأتِ في سياق «معركة كبرى» تمتد من حلب المدينة إلى الأرياف. نجح المهاجمون في كتم الضجيج الاعلامي المنتظر عادة عند فتح جبهات واسعة قد تُفرمَل بالسياسة أو الميدان. رغم ذلك، التقطت واشنطن إشارات الشمال الساخنة، وأعرب المتحدث باسم وزارة الخارجية جون كيربي عن انزعاج بلاده من «استمرار الوحدات التابعة للنظام السوري في شنّ هجمات على مناطق في مدينة حلب ودمشق وإدلب رغم الهدنة»، ودعا موسكو إلى «استخدام نفوذها لدى النظام السوري» من أجل الالتزام بوقف إطلاق النار.

موسكو «أوقفت» بالهدنة المفروضة موجة تقدّم هائلة للجيش في ريف حلب، بحثاً عن صيغة تعاون واضحة مع واشنطن عنوانها الحصري «مكافحة الارهاب». لكن هذه المفاوضات لم تصل إلى أي نتيجة، ليعلن البيت الأبيض، أول من أمس، أنّ «الرئيس باراك أوباما لم يتفق مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين على تعاون جديد بشأن سوريا، وأنه دعاه إلى الضغط على النظام السوري لوقف استهداف المدنيين».

أما «محور دمشق» فكان يعمل في الحدود المتاحة حتى اللحظة. يضرب ويتقدّم «رداً على خروقات المسلحين» لنظام التهدئة.

فكان القضم والعمل الهادئ والمركّز سيدَي الموقف. من 25 حزيران كانت المزارع تحت النار، وجرت محاولة جدية لاسترجاعها... لتكون «اسفنجة» الجيش العامل الأساسي في إعادة التقدم: امتصاص الهجوم، وتكبيد المهاجمين خسائر كبيرة في رأس حربتهم القتالية وإنهاكهم، ثم الاندفاع سريعاً نحو كسب نقاط جديدة.

وكما جرت العادة، حاول المسلحون إلى جانب محاولة استعادة المزارع تسخين جبهات قريبة، فحاولوا قطع طريق الراموسة (مدخل حلب الجنوبي الذي يستخدمه الجيش ومدنيّو الأحياء الغربية) من دون أن يحققوا أي تقدم، ويجري العمل، حسب المعلومات، لتحقيق خروقات من جهة جمعية الزهراء والليرمون. في المنطقة الأخيرة عزّز الجيش وجوده وتقدم في منطقة المعامل التي تساهم في وضعية «فكي الكماشة» على المدخل الشمالي لحلب.

 من محاصِرين إلى محاصَرين

 يذكّر طوق حلب بطوق الغوطة الشرقية الشهير في نيسان 2013. يومها أقفل كامل طريق الإمداد لمسلحي الغوطة من البادية والحدود الأردنية إلى ريف دمشق (من المطار الدولي مروراً بالعتيبة إلى عدرا). المسلحون كان يعدّون العدّة لاقتحام مدينة دمشق، معتبرين أنّ الطوق لن يؤثر في معركة العاصمة. شهور قليلة، وأدرك «جيش الاسلام» و«جبهة النصرة» وفصائل غيرهما أنّ «غزوة دمشق» ضرب من الخيال، ليقتصر عملها لاحقاً على محاولات فك الحصار. ثم كان التمترس في أوضاع دفاعية سمة هؤلاء، ليعود قضم المناطق ويخسر الوجود المسلح كامل القطاع الجنوبي للغوطة الشرقية وليقاتل اليوم في قطاع المرج (بعد تحرير البحارية وميدعا، وميدعاني وحوش الفارة تحت النار)، ليكون الهدف البعيد هو حصار دوما، بعدما كان حصار كامل الغوطة، حيث عشرات القرى.

  • فريق ماسة
  • 2016-07-08
  • 12725
  • من الأرشيف

إسقاط خطوط واشنطن (وتركيا) الحمراء: «طوق حلب» يُبصر النور

ما جرى في الأيام الأخيرة في حلب يتعدى الحسابات الميدانية في ربح أو خسارة منطقة معيّنة. تطويق المدينة يُعدّ قراراً استراتيجياًَ يُسقط الرهانات على احتلال عاصمة سوريا الثانية.  وإذا ما تم الحفاظ على ما تحقق، وتم تعزيزه، فإنه سيمثل بداية نهاية آمال أعداء دمشق بتحقيق نصر كبير شمالاً، كما يساهم في دفن حساباتهم في خلق «إقليم» عاصمته حلب، تديره تركيا و«أصدقاؤها».  هذا الطوق، في حال تثبيته، يعني أنّ المعركة الأصعب بدأت تميل كفتها لمصلحة الجيش السوري وحلفائه. عملياً، تصبح أحياء المدينة الشرقية مطوّقة، بما فيها من آلاف المسلحين وعشرات غرف العمليات. والمناطق التي سيطر عليها الجيش وحلفاؤه كانت الممر الوحيد للإمداد من الريفين الغربي والجنوبي لحلب، وخلفهما إدلب وتركيا. القرار «الكبير» بفتح هذه المعركة، الموضوعة ضمن الخطوط الحمراء الأميركية، يأتي في سياق كلام السيد حسن نصرالله عندما أكّد منذ أسبوعين أنّ «المطلوب من الجميع أن يستعد، لأن المعركة الحقيقية الاستراتيجية الكبرى هي معركة حلب»، وهي «ضرورية لإفشال مشروع إقليمي ودولي يستهدف إسقاط هذا البلد (سوريا) عبر استقدام المقاتلين الأجانب إليه». لم يكن تطويق مدينة حلب لقمة سائغة في يوم من الأيام. على مدى سنوات، كان الجيش السوري كلّما تقدّم خطوة لقطع طريق الكاستيلّو، يسارع المسلحون إلى التقاط أنفاسهم وتعويض خسائرهم، شمالي حلب. بعد فكّ الحصار عن نبّل والزهراء وقطع الجيش وحلفائه لشريان أساسي يصل حلب المدينة بأعزاز فتركيا في شباط الماضي، أصبح العمل على تحقيق الطوق أكثر يسراً. لكن المهمة مع مرور الوقت لم تظهر بالسهولة ذاتها، فإلى جانب العامل العسكري كان العامل السياسي طاغياً في معظم الأحيان: اللعب في مدينة حلب ممنوع.  عبارة أكّدها الأميركي مراراً و«استوعبها» الروسي بعده. فعلياً، حُيدّت حلب عن خارطة المبادرات العسكرية للجيش منذ اتفاق الهدنة نهاية شباط الماضي. مركز حميميم شغّل عدّاد الخروقات اليومية، فيما كان الجيش والحلفاء يتراجعون من نقاط أساسية في ريف المحافطة الجنوبي. جاءت ضربة بلدة العيس وتلتها، ثم خان طومان وبضع قرى محيطة، ليستقرّ الخطر أمام بلدة الحاضر، حيث خسارتها تعني «التخلّي» عن جزء كبير من منجزات معارك ذاك الريف المتصل بإدلب وبطريق خناصر. سريعاً، احتوى المدافعون موجات «جيش الفتح» الكبيرة. عدد القتلى الضخم في صفوف المهاجمين، إضافة إلى تثبيت خطوط تماس متينة على محاور القتال، حميا الحاضر وأنهيا الاستنزاف في تلك المنطقة. مرّت أيام، ولم تظهر أيّ مبادرة من المحور السوري. كان الكلام عن «الفيتو» الروسي لا يزال حاضراً رغم «تخفيفه» في لقاء طهران الشهير لوزراء دفاع سوريا وروسيا وإيران. جاء بعدها كلام السيد حسن نصرالله ليصوّب البوصلة: حلب أولاً. جُمّدت معركة دير الزور، وأصبح كل جهد موظّف لخدمة المعركة الأم. ومن المكان الأصعب في الميدان، جاء تقدم الجيش السوري وحلفائه في مزارع الملاح، لتتدحرج رقعة السيطرة فيها على مدى أسبوعين، لتكون الوحدات السورية على بعد 400 متر من طريق الكاستيلّو. آلاف المسلحين في أحياء المدينة الشرقية أضحوا معزولين عن كامل الريف الغربي والجنوبي المتصل بإدلب ثم تركيا. الخطوة الأخيرة لم تأتِ في سياق «معركة كبرى» تمتد من حلب المدينة إلى الأرياف. نجح المهاجمون في كتم الضجيج الاعلامي المنتظر عادة عند فتح جبهات واسعة قد تُفرمَل بالسياسة أو الميدان. رغم ذلك، التقطت واشنطن إشارات الشمال الساخنة، وأعرب المتحدث باسم وزارة الخارجية جون كيربي عن انزعاج بلاده من «استمرار الوحدات التابعة للنظام السوري في شنّ هجمات على مناطق في مدينة حلب ودمشق وإدلب رغم الهدنة»، ودعا موسكو إلى «استخدام نفوذها لدى النظام السوري» من أجل الالتزام بوقف إطلاق النار. موسكو «أوقفت» بالهدنة المفروضة موجة تقدّم هائلة للجيش في ريف حلب، بحثاً عن صيغة تعاون واضحة مع واشنطن عنوانها الحصري «مكافحة الارهاب». لكن هذه المفاوضات لم تصل إلى أي نتيجة، ليعلن البيت الأبيض، أول من أمس، أنّ «الرئيس باراك أوباما لم يتفق مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين على تعاون جديد بشأن سوريا، وأنه دعاه إلى الضغط على النظام السوري لوقف استهداف المدنيين». أما «محور دمشق» فكان يعمل في الحدود المتاحة حتى اللحظة. يضرب ويتقدّم «رداً على خروقات المسلحين» لنظام التهدئة. فكان القضم والعمل الهادئ والمركّز سيدَي الموقف. من 25 حزيران كانت المزارع تحت النار، وجرت محاولة جدية لاسترجاعها... لتكون «اسفنجة» الجيش العامل الأساسي في إعادة التقدم: امتصاص الهجوم، وتكبيد المهاجمين خسائر كبيرة في رأس حربتهم القتالية وإنهاكهم، ثم الاندفاع سريعاً نحو كسب نقاط جديدة. وكما جرت العادة، حاول المسلحون إلى جانب محاولة استعادة المزارع تسخين جبهات قريبة، فحاولوا قطع طريق الراموسة (مدخل حلب الجنوبي الذي يستخدمه الجيش ومدنيّو الأحياء الغربية) من دون أن يحققوا أي تقدم، ويجري العمل، حسب المعلومات، لتحقيق خروقات من جهة جمعية الزهراء والليرمون. في المنطقة الأخيرة عزّز الجيش وجوده وتقدم في منطقة المعامل التي تساهم في وضعية «فكي الكماشة» على المدخل الشمالي لحلب.  من محاصِرين إلى محاصَرين  يذكّر طوق حلب بطوق الغوطة الشرقية الشهير في نيسان 2013. يومها أقفل كامل طريق الإمداد لمسلحي الغوطة من البادية والحدود الأردنية إلى ريف دمشق (من المطار الدولي مروراً بالعتيبة إلى عدرا). المسلحون كان يعدّون العدّة لاقتحام مدينة دمشق، معتبرين أنّ الطوق لن يؤثر في معركة العاصمة. شهور قليلة، وأدرك «جيش الاسلام» و«جبهة النصرة» وفصائل غيرهما أنّ «غزوة دمشق» ضرب من الخيال، ليقتصر عملها لاحقاً على محاولات فك الحصار. ثم كان التمترس في أوضاع دفاعية سمة هؤلاء، ليعود قضم المناطق ويخسر الوجود المسلح كامل القطاع الجنوبي للغوطة الشرقية وليقاتل اليوم في قطاع المرج (بعد تحرير البحارية وميدعا، وميدعاني وحوش الفارة تحت النار)، ليكون الهدف البعيد هو حصار دوما، بعدما كان حصار كامل الغوطة، حيث عشرات القرى.

المصدر : الاخبار/ايلي حنا


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة