في الصراع الخاسر مسبقاً ضد التوجه الدولي للاعتراف بالمذبحة ضد الأرمن في الحرب العالمية الأولى، تلقى رئيس تركيا طيب رجب أردوغان، ضربة أخرى. كانت هذه المرة من ألمانيا حيث صادق البرلمان في الأسبوع الماضي على قرار الاعتراف بالمذبحة ضد الأرمن والتي قام بها جنود أتراك في الحرب العالمية الاولى، واعتبارها إبادة شعب.

ألمانيا ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في اتخاذ قرار كهذا. فقد سبقتها مجموعة طويلة من الدول وخصوصاً دول أوروبية ومؤسسات دولية، أعلنت منذ زمن عن ابادة الشعب الارمني. يبدو أن اعلاناً مشابها من الولايات المتحدة ما هو إلا مسألة وقت. إلا أن واشنطن قلقة على مستقبل التحالف الاستراتيجي بينها وبين أنقرة، وهي أيضاً تتأثر بشكل أقل من الرأي العام الذي يركز أصلاً على المشكلات الأميركية الداخلية.

الصراع من أجل الاعتراف الدولي بإبادة الشعب الأرمني هو صراع ضائع. ومع ذلك، أنقرة تبذل جهوداً كبيرة لكبح ذلك. لأنه وعلى العكس من أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة، فإن أردوغان يعتبر نفسه ملتزماً بميراث الإمبراطورية العثمانية وهو يريد العودة إلى أيامها الزاهرة حيث سيطر المسلمون في حينه وباسم الإسلام على الشرق الأوسط. ولكن يجب الاعتراف بأن في تركيا نفسها أصواتاً كثيرة تدعو إلى تغيير موقف الحكومة التركية والاعتراف بالمذبحة التي تمت ضد الأرمن.

يمكن أن موقفاً تركياً سخياً ومتصالحاً أكثر في هذه المسألة سيترك للمؤرخين النقاش حول سؤال إذا كانت المذابح التي نفذت ضد الأرمن قد نفذت كجزء من خطة أشمل وبناء على أوامر أعطيت من اسطنبول. وبالتالي فإن الحديث يدور عن إبادة شعب، الأمر الذي سيتحول إلى موضوع في جلسات الحكومات والبرلمانات.

الاعتراف الألماني بالمذبحة ضد الأرمن جاء في الوقت الذي يحتفل فيه العالم بذكرى مرور 100 سنة على الحرب العالمية الأولى. في هذه الحرب كانت ألمانيا والامبراطورية العثمانية حليفتين، وكان ضباط ودبلوماسيون ألمان شهوداً على المذبحة ضد الأرمن. وفي حالات كثيرة أيدوا سياسة الامبراطورية العثمانية في موضوع الأرمن. وفيما بعد تعلق هتلر نفسه بصمت العالم تجاه المذبحة كبرهان على أن المانيا حرة بفعل ما تريده لليهود الذين تحت سيطرتها. لكن التحالف الألماني التركي هو مسألة الماضي. ألمانيا توجد في مكان آخر وكذلك تركيا. إلا أن اردوغان ومقربيه لن يترددوا في القول بأن القرار بخصوص الأرمن تسعى من خلاله ألمانيا إلى حرف الأنظار في العالم عن جرائمها هي.

الأمر اللافت هو أنه رغم الشرخ في العلاقات بين تركيا وألمانيا، يبدو أن لا أحد في برلين ينفعل زيادة عن اللزوم أو يتعامل مع أردوغان بجدية كبيرة. الموضوع التركي أثبت بقائمة طويلة من الأحداث وراء تصريحاته الهجومية بأنه لا يخفي شيئاً. صحيح أنه استدعى سفيره من برلين للتشاور، لكن يمكن الافتراض أنه كما حدث في حالة فرنسا ودول أخرى اعترفت بالمذبحة الأرمنية، فإن الازمة ستنتهي بسرعة ويسلم أردوغان بالوضع الجديد. في نهاية المطاف، أردوغان ليس في وضع يسمح له بفرض إرادته على أحد في الشرق الأوسط أو في أوروبا. الأميركيون يتجاهلونه بشكل فظ عندما يساعدون الأكراد في سوريا، الذين تكرههم تركيا، في إقامة حكم ذاتي.

روسيا وإيران وبشار الأسد كفوا منذ زمن عن رؤية أردوغان كقوة حقيقية من شأنها تخريب خططهم في ما يتعلق بسوريا. وفي نهاية المطاف، الأوروبيون كفوا عن الانبهار. صحيح أن أوروبا تخشى من إلغاء أردوغان لاتفاق اللاجئين الذي وقعه مع الاتحاد الأوروبي، لكن الأتراك أنفسهم سارعوا وأعلنوا أن الاتفاق لن يلغى.

يبدو أن هذه هي خلفية الأنباء حول توقيع اتفاق المصالحة بين أنقرة والقدس قريباً مع تطبيع العلاقات وإغلاق ملف القافلة التي ذهبت إلى غزة. ولكن يبدو أن علاقة الدولتين لن تعود الى سابق عهدها. وأحد أسباب ذلك هو أن أردوغان لم يعد نفس الحاكم صاحب القوة الكبيرة، بل هو قائد دولة تعيش في عزلة إقليمية ودولية، وخصوصا أنها ما زالت دولة هامة لعبت في الماضي دوراً ستعود وتلعبه في المستقبل في المنطقة.

  • فريق ماسة
  • 2016-06-06
  • 11122
  • من الأرشيف

تركيا: دولة في عزلة متزايدة

في الصراع الخاسر مسبقاً ضد التوجه الدولي للاعتراف بالمذبحة ضد الأرمن في الحرب العالمية الأولى، تلقى رئيس تركيا طيب رجب أردوغان، ضربة أخرى. كانت هذه المرة من ألمانيا حيث صادق البرلمان في الأسبوع الماضي على قرار الاعتراف بالمذبحة ضد الأرمن والتي قام بها جنود أتراك في الحرب العالمية الاولى، واعتبارها إبادة شعب. ألمانيا ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في اتخاذ قرار كهذا. فقد سبقتها مجموعة طويلة من الدول وخصوصاً دول أوروبية ومؤسسات دولية، أعلنت منذ زمن عن ابادة الشعب الارمني. يبدو أن اعلاناً مشابها من الولايات المتحدة ما هو إلا مسألة وقت. إلا أن واشنطن قلقة على مستقبل التحالف الاستراتيجي بينها وبين أنقرة، وهي أيضاً تتأثر بشكل أقل من الرأي العام الذي يركز أصلاً على المشكلات الأميركية الداخلية. الصراع من أجل الاعتراف الدولي بإبادة الشعب الأرمني هو صراع ضائع. ومع ذلك، أنقرة تبذل جهوداً كبيرة لكبح ذلك. لأنه وعلى العكس من أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة، فإن أردوغان يعتبر نفسه ملتزماً بميراث الإمبراطورية العثمانية وهو يريد العودة إلى أيامها الزاهرة حيث سيطر المسلمون في حينه وباسم الإسلام على الشرق الأوسط. ولكن يجب الاعتراف بأن في تركيا نفسها أصواتاً كثيرة تدعو إلى تغيير موقف الحكومة التركية والاعتراف بالمذبحة التي تمت ضد الأرمن. يمكن أن موقفاً تركياً سخياً ومتصالحاً أكثر في هذه المسألة سيترك للمؤرخين النقاش حول سؤال إذا كانت المذابح التي نفذت ضد الأرمن قد نفذت كجزء من خطة أشمل وبناء على أوامر أعطيت من اسطنبول. وبالتالي فإن الحديث يدور عن إبادة شعب، الأمر الذي سيتحول إلى موضوع في جلسات الحكومات والبرلمانات. الاعتراف الألماني بالمذبحة ضد الأرمن جاء في الوقت الذي يحتفل فيه العالم بذكرى مرور 100 سنة على الحرب العالمية الأولى. في هذه الحرب كانت ألمانيا والامبراطورية العثمانية حليفتين، وكان ضباط ودبلوماسيون ألمان شهوداً على المذبحة ضد الأرمن. وفي حالات كثيرة أيدوا سياسة الامبراطورية العثمانية في موضوع الأرمن. وفيما بعد تعلق هتلر نفسه بصمت العالم تجاه المذبحة كبرهان على أن المانيا حرة بفعل ما تريده لليهود الذين تحت سيطرتها. لكن التحالف الألماني التركي هو مسألة الماضي. ألمانيا توجد في مكان آخر وكذلك تركيا. إلا أن اردوغان ومقربيه لن يترددوا في القول بأن القرار بخصوص الأرمن تسعى من خلاله ألمانيا إلى حرف الأنظار في العالم عن جرائمها هي. الأمر اللافت هو أنه رغم الشرخ في العلاقات بين تركيا وألمانيا، يبدو أن لا أحد في برلين ينفعل زيادة عن اللزوم أو يتعامل مع أردوغان بجدية كبيرة. الموضوع التركي أثبت بقائمة طويلة من الأحداث وراء تصريحاته الهجومية بأنه لا يخفي شيئاً. صحيح أنه استدعى سفيره من برلين للتشاور، لكن يمكن الافتراض أنه كما حدث في حالة فرنسا ودول أخرى اعترفت بالمذبحة الأرمنية، فإن الازمة ستنتهي بسرعة ويسلم أردوغان بالوضع الجديد. في نهاية المطاف، أردوغان ليس في وضع يسمح له بفرض إرادته على أحد في الشرق الأوسط أو في أوروبا. الأميركيون يتجاهلونه بشكل فظ عندما يساعدون الأكراد في سوريا، الذين تكرههم تركيا، في إقامة حكم ذاتي. روسيا وإيران وبشار الأسد كفوا منذ زمن عن رؤية أردوغان كقوة حقيقية من شأنها تخريب خططهم في ما يتعلق بسوريا. وفي نهاية المطاف، الأوروبيون كفوا عن الانبهار. صحيح أن أوروبا تخشى من إلغاء أردوغان لاتفاق اللاجئين الذي وقعه مع الاتحاد الأوروبي، لكن الأتراك أنفسهم سارعوا وأعلنوا أن الاتفاق لن يلغى. يبدو أن هذه هي خلفية الأنباء حول توقيع اتفاق المصالحة بين أنقرة والقدس قريباً مع تطبيع العلاقات وإغلاق ملف القافلة التي ذهبت إلى غزة. ولكن يبدو أن علاقة الدولتين لن تعود الى سابق عهدها. وأحد أسباب ذلك هو أن أردوغان لم يعد نفس الحاكم صاحب القوة الكبيرة، بل هو قائد دولة تعيش في عزلة إقليمية ودولية، وخصوصا أنها ما زالت دولة هامة لعبت في الماضي دوراً ستعود وتلعبه في المستقبل في المنطقة.

المصدر : الماسة السورية/إيال زيسر


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة