دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
لم ينطلق تحذير زعيم «حزب الشعب الجمهوري» كمال كيليتشدار أوغلو من فراغ... الأحقاد والحساسيات التي أثارها رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان،
واستفز بها غالبية الأطياف التركية، لم تترك مجالاً للعقلانية السياسية لكي تكون هي الحكم في الخلافات والصراعات الداخلية.
خرج كيليتشدار أوغلو ليقول لأردوغان: «إذا كنت تريد نظاماً رئاسياً، فلن تستطيع فرضه من دون إراقة دماء».
وذكّر زعيم المعارضة التركية بطريقة إخراج أحمد داود اوغلو من رئاسة الحكومة و «حزب العدالة والتنمية»، متسائلاً كيف يمكن لرئيس حزب نال 49 في المئة من الأصوات أن يُخرجه من موقعه شخص واحد لا صفة مسؤولة له، لا في الحكومة ولا في الحزب، ومعتبراً ان هذا انقلاب لا مثيل له في تاريخ تركيا.
تساءل كيليتشدار أوغلو إنه «كيف يمكن لشخص نال حزبه 23 مليوناً و600 ألف صوت ان يقول له أردوغان قبل الظهر: إرحل، فيجيبه داود أوغلو: انت تأمر. سوف اترك بعد الظهر؟».
بطبيعة الحال، فإن مسؤولين في «حزب العدالة والتنمية» انتقدوا كيليتشدار أوغلو على هذا التصريح، مذكرين بأن نجم الدين أربكان سبق أن صرح في العام 1994 بأن «تركيا تمر في مرحلة انتقالية، والسؤال هو هل ستكون هذه المرحلة دموية أم غير دموية»، بل إن المدعي العام فتح فوراً تحقيقاً مع كيليتشدار أوغلو حول تصريحاته.
ترتفع حدة السجالات في تركيا ليس فقط بين «حزب العدالة والتنمية» وقوى المعارضة، بل ايضاً بين تيار الاسلام السياسي الذي يظلل بجناحيه «العدالة والتنمية»، فالمسار الذي يمضي فيه أردوغان بات واضحاً في خطوطه الأساسية.
عُزل داود أوغلو من رئاسة الحزب والحكومة لأن معارضة «الرئيس» (أي أردوغان ـ وهنا يتم التمييز في تركيا بين الصفة الحالية لأردوغان أي «رئيس الجمهورية» وبين الصفة التي ستطلق عليه في حال اعتمد النظام الرئاسي وهو «الرئيس» فقط) ـ ممنوعة.
وتصفية «الخونة» مهمة نضالية و«جهادية»، بحيث تحول الحزب الذي تطلع اليه الجميع في البداية، إلى حزب تروتسكي، لا مكان فيه حتى للهمس.
لعل أفضل من يدرك هذه الحقيقة ويعرفها من الداخل على قاعدة «شهد شاهد من أهله» هو الرئيس التركي السابق عبد الله غول الذي كان تعرض من قبل لما تعرض له داود اوغلو قبل سنتين.
يقول المستشار الإعلامي السابق لغول، احمد سيفير، في حوار مطول مع صحيفة «جمهورييت» إن غول هو الذي قرر الانسحاب من الحياة السياسية عندما صرح قبل اشهر من انتهاء ولايته الرئاسية في صيف العام 2014 إنه «في ظل الظروف السياسية الراهنة ليست لدي خطط للعمل في السياسة».
لكن ما هي تلك الظروف التي أشار إليها غول؟
يقول سيفير إن السبب هو موقف أردوغان الذي كان يريد تصفية الجميع. وقد قرر غول من تلقاء نفسه تلافي المواجهة مع أردوغان.
ويضيف سيفير أن استطلاعاً للمواقف داخل «حزب العدالة والتنمية» بيّن ان غالبية 76 في المئة داخل الحزب تؤيد غول لخلافة أردوغان في رئاسة الحزب والحكومة، وقد نال داود اوغلو نسبة واحد في المئة فقط.
كان فارقاً مخيفاً بالفعل. ومع ذلك، قرر أردوغان اختيار داود أوغلو.
يأسف سيفير للحال التي وصل اليها الحزب، قائلاً إنه «في السنوات الأولى من التجربة، كان أردوغان يلجأ إلى الاستشارة في كل المواضيع، أما الآن فإن نائباً في الحزب ينقل عن أردوغان قوله: نحن لا نحتاج إلى الاستشارة بل إلى الاستخارة».
ويكشف سيفير أن أردوغان أسس غرفة عمليات إعلامية تستهدف كل منتقديه خارج الحزب وداخله. وكانت سياسة أردوغان ابتلاع معارضيه وتخويفهم ليتحولوا إلى تابعين له. وأشار إلى أن هذه الغرفة موجودة في القصر الجمهوري ويديرها الآن كبير مستشاري أردوغان، مصطفى فارانك.
وينقل سيفير عن غول قوله إنه كان يتوقع هذه النهاية لأحمد داود أوغلو.
ويصف سيفير الصحافيين الذين يكتبون مع أردوغان بأنهم مجرد مرتزقة مأجورين يتلقون المال مقابل عملهم. وقال إنه في ذروة الوصاية العسكرية لم يلجأ أي مسؤول إلى طرد الصحافيين من عملهم، اما الآن فالأمر لا يحتمل.
واعتبر سيفير على هامش الحوار أن سياسة تركيا في سوريا هي إفلاس كامل لم تشهد تركيا مثيلاً له، مذكراً بأن غول قال لأردوغان إنه لا يمكن له أن يكون أيضاً رئيس حكومة سوريا ومصر. كما قال لداود أوغلو إنه ذهب بعيداً في سياسته السورية، ولم يبق له في سوريا صديق فكلهم، خلا التركمان، أصبحوا أعداء لتركيا.
لكن غول يرى أن تحميل داود اوغلو وحده مسؤولية السياسة التركية في سوريا ليس واقعياً، فهو، مع أردوغان، مسؤولان عنها.
وحول تشبيه ثنائية أردوغان ـ غول بثنائية بوتين ـ ميدفيديف، قال سيفير إن هذا تشبيه غير صحيح لأنه في تركيا لا يوجد «أردوغان ـ غول» بل «أردوغان ـ أردوغان». ليس من مكان سوى لأردوغان.
هذا الحوار المهم في توقيته هو الذي يفسر كيف أن المقالات في تركيا اليوم لا تتكلم سوى على أن رئيس حزب «العدالة والتنمية» والحكومة الجديد يجب ان يتمتع بمواصفات منخفضة (بروفايل ضعيف)، بحيث لا يكرر تجربة داود أوغلو الممتعضة من بعض سياسات أردوغان.
«زعيم بمواصفات (بروفايل) منخفضة لا تترجم في مشروع رجب طيب أردوغان سوى ان هذا الزعيم لن يكون سوى موظف صغير ـ حتى وليس كبيراً ـ وانه ليس سوى آخر رئيس حكومة لتركيا قبل تعديل النظام الى رئاسي». على هذا ينقل المسؤول في حزب «العدالة والتنمية» نورالدين جانيكلي ان الحزب سوف يقدم في منتصف حزيران مقترحاً لتعديل الدستور في البرلمان وتغيير النظام إلى نظام رئاسي.
لا يعرف على ماذا يراهن أردوغان في هذه الخطوة، هو الذي لا يحظى حزبه لا بثلثي المقاعد (367) ولا بالعدد الضروري (330 نائباً) لتحويل أي مقترح لتعديل الدستور إلى استفتاء شعبي. فمن أين يأتي الحزب الذي يملك 317 نائباً فقط بـ13 نائباً اضافياً، في وقت أعلن زعيم حزب الحركة القومية دولت باهتشلي أنه يعارض النظام الرئاسي.
الأرجح، إذا لم تحدث مفاجأة من بعض نواب حزب الحركة القومية، فإن سيناريو «العدالة والتنمية» هو الذهاب إلى انتخابات مبكرة يثق أنه سينال فيها الثلثين، وفي أسوأ الأحوال أكثر من 330 نائباً في ظل إضعاف حزب «الشعوب الديموقراطي الكردي» واحتمال اعتقال بعض نوابه، وفي ظل الانقسام داخل حزب الحركة القومية الذي قد يتفاقم في مؤتمر للحزب لا يعرف ما إذا كان سينعقد غداً الأحد ام لا بعد ان انتقل الخلاف الى القضاء الذي قضى بعقد مؤتمر استثنائي للحزب لانتخاب قيادة له.
إذا مضى هذا السيناريو فهذا يعني أن تركيا مقبلة على انتخابات نيابية مبكرة جديدة في الخريف أو السنة المقبلة، يأمل أردوغان أن تحسم، في البرلمان أولاً او في استفتاء شعبي ثانياً، تغيير الدستور وبالتالي النظام.
ومع أن شخصية المرشح لتولي «أمانة» (وليس زعامة) «العدالة والتنمية» والحكومة، لن تكون ذات أهمية، بل يعرف من سيتولى هذين الموقعين أنه لن يكون سوى «خزمتجي» (باللغة التركية تعني «خادم») لأردوغان وهو سيتصرف منذ اللحظة على هذا الأساس حتى لا يصيبه ما أصاب داود اوغلو وغول وأرينتش وباباجان وشينير ...الخ، فإن الإشارات بدأت تكثر حول الاسم المحتمل لهذه الشخصية.
في الأساس، فإن الاسم كان يدور بين ستة أسماء، أقربهم كان برات البيرق وزير الطاقة المتزوج من ابنة أردوغان إسراء. كما مر اسم وزير الدفاع عصمت يلماز كفلتة شوط، فضلاً عن وزير العدل بكر بوزداغ وربما آخرين.
لكن عبد القادر سيلفي، المتحدث غير الرسمي في الصحافة باسم كواليس حزب «العدالة والتنمية» كتب في صحيفة «حرييت» التي انتقل اليها من صحيفة «يني شفق» أن وزير المواصلات في الحكومة بينالي يلديريم سيكون هذه الشخصية بنسبة 90 في المئة حتى الآن. لكن يلديريم يأخذ في الاعتبار العشرة في المئة الباقية، بل حتى الواحد في المئة، ويعمل على عدم تفويت هذه الفرصة. علماً، يقول سيلفي، إن يلديريم مر في امتحانات متعددة سابقاً تعكس إخلاصه وولاءه لأردوغان ولم يتردد حتى في الترشح لرئاسة بلدية أزمير ضد «حزب الشعب الجمهوري» مع علمه المسبق أنه لن يحقق مفاجأة وينجح.
بمعزل عمن سيخلف داود أوغلو، فإن تركيا دخلت مع تنحي الأخير مرحلة جديدة بالكامل لم يعد يشار فيها إلى من هو رئيس الحزب او الحكومة، بل باتت الخيوط، وعلناً وبما يخالف الدستور، بيد أردوغان.
لم يعد هناك إسم أول في «حزب العدالة والتنمية» او الحكومة أو النظام ككل.
اختزل أردوغان كل شيء بشخصه، فهو الرجل الأول في النظام وهو الرجل الثاني والثالث والعاشر.
هذا يذكّر تماماً بحقبة مصطفى كمال أتاتورك، والتي انتهت مع خليفته عصمت إينونو عام 1950 بانتصار كامل وساحق لحزب المعارضة حينها، «الحزب الديموقراطي».
تمضي التطورات في تركيا إلى مزيد من حصر السلطة بيد شخص واحد، وإلى مزيد من الاستبداد السياسي، مضافاً إليه النزوع إلى دولة أكثر تديناً وأقل علمانية، وهو ما يتعارض مع الطبيعة التعددية الاثنية والمذهبية والإيديولوجية لتركيا.
ونظام رئاسي في مثل هذه التركيا لا يمكن أن يمر بسهولة حتى لو أقر عبر استفتاء شعبي، إذ إن نتائجه المذهبية والاثنية والإيديولوجية ستلغي كل المكونات الأخرى خارج الانتماءات التي يخوض أردوغان المعركة تحت سقفها. وهو الذي دفع بزعيم المعارضة للتحذير من دم سيراق قبل أن يتحقق هذا النظام.
يدرك أردوغان ان كلفة تحقيق النظام الرئاسي ستكون باهظة وقد يتحقق وقد لا يتحقق. لذا هو يحاول، لتضييع بوصلة النقاش حول النظام الرئاسي، تصعيد الخطاب القومي بالتهديد بالتدخل في سوريا قريباً بذريعة «داعش»، وبتصعيد اللهجة ضد اوروبا بشأن اللاجئين وتأشيرات الدخول، كذلك عبر اختلاق معركة في قره باغ ضد أرمينيا ومن ورائها روسيا، وفي الداخل بمواصلة الحرب ضد الأكراد.
لم يكتف أردوغان بالكم الكبير من الضحايا بين الأتراك والأكراد وفي صفوف الجيش التركي، ولا بحجم الخوف الذي يعتري المجتمع التركي، ليغامر ويدخل البلاد في حرب أهلية لا يمكن لأحد ان يقدر حدودها في حال انفجرت.
المصدر :
محمد نور الدين
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة