سأخالف اليوم البروتوكولات والنصائح .. وسأخرج عن توصيات مكتب الرئاسة وتمنياته .. وسأقول ماأريد أن أقول لأنني أثق بنفسي منذ أن رفضت ثقافة النفاق التي كانت تريد أن تعيش في عقلي فرفضها كما يرفض الجسد العضو المزروع الغريب الذي لايحبه ..

 

ولفظها دمي على شواطئ عروقي كما يرفض البحر جثث الغرقى ويرميها على الشواطئ .. وسأقول بأن وفاة السيدة أنيسة مخلوف جعلتني فجأة أتذكر أنني أمام ضمير سوري نقي .. به قوة النيرفانا يغادرنا بهدوء .. ولكن الصمت سيعاتبنا ان التزمنا الصمت ازاء هذه السيدة التي صنعت هيبتها من صمتها وزهدها ..

 

هذه السيدة الكريمة عاش السوريون وهم يسمعون باسمها وهي تحمل لقب السيدة الأولى .. ولكن كل السوريين يعترفون بعد أن عرفوها طويلا بأنها كانت الأكثر نقاء .. وأنها الأم التي كانت مثالا لأننا لم نسمع أن أحدا ناله منها أذى معنوي أو غير معنوي .. أو أنها اعتدت على حق أحد مستغلة صفة السيدة الأولى .. ولم يسمع السوريون يوما أنها استثمرت اسمها ومكانتها لبناء علاقات اجتماعية وسياسية وصالونات لتحيط نفسها بطبقة من المنتفعين والمتملقين والمداحين .. ولم يسمع أحد منذ ظهرت أنها شاركت في مضاربات السياسة والمناصب والتجارة .. ولم تتلوث أصابعها بشركات الفساد السوداء وصفقات الأسواق .. أو أنها مارست سلطاتها المعنوية الكبيرة كسيدة اولى لتمارس نفوذا وتتوسط لصالح أحد ضد القانون .. ويكفي مايقدره السوريون لها أن أولادها - عندما كانوا يعاملون كأبناء الرئيس في المجتمع وبين مسؤولي الدولة - لم يكونوا يتصرفون باستعلاء على الناس أو سادية مريضة لايذاء الناس أو تهديدهم أو استعراض نفوذهم .. وبالرغم من تأثير الزوج على الأبناء فان الأم هي التي تربي أبناءها على هذا التواضع والكرم وأخلاق الفروسية وهي التي تعلم القيم العليا للأبناء ..

 

والسوريون الذين اشتكوا من الفساد والظلم الذي تمارسه بعض شخصيات الدولة والروتين الاداري البيروقراطي لاتحفظ ذاكرتهم أي حادثة سيئة كان فيها ذكر من قريب أو بعيد للسيدة أنيسة مخلوف أو أن لأبنائها أي سلوك مذموم عندما كانوا في الجامعات وأماكن العمل .. حيث كانت قصص المسؤولين الفاسدين وسلوك أبنائهم مثار استهجان السوريين جميعا وسببا لغضبهم ..

 

انفردت هذه السيدة العظيمة النقية بأنها لم تتورط بالسياسة والفساد والاستعراض ولم يسمع الناس عنها أنها متعجرفة ومتكبرة ومتسلطة أو أنها تميل للغرور والرفاهية الدنيوية وحياة الترف .. بل كان اعتكافها واطلالاتها المقتضبة الخاطفة وزهدها في بريق السلطة سببا في احترام الجميع لها ..

 

وربما يستطيع كارهو النظام ومنتقدوه والحاقدون عليه أن يوجهوا سهامهم الى كل شيء فيه والى كل شخص في الدولة ولكنهم يعجزون عن التقاط كلمة واحدة تجرؤ على النيل من نقائها وضميرها وزهدها .. وتجدونهم عاجزين عن القاء حجر واحد على اسمها .. لا بل ان محاولات البعض الرخيصة في الزج باسمها في الشائعات المفبركة في بداية الحرب على سورية لاقت فتورا وعدم تصديق حتى بين جمهور الخصوم ولذلك صمتت تلك المحاولات وماتت خجلة بسرعة ..

 

وفاة هذه السيدة التي تستحق لقب "أم السوريين" فعلا يجب أن يدفعنا جميعا لأن نتذكر أسماء كل السيدات زوجات الرؤساء والملوك العرب والمسؤولين العرب لنعرف قيمة هذه السيدة الفاضلة المربية لأن المقارنة ستجعلنا نعرف أنه كانت بيننا أم عظيمة وسيدة ننحني لقدرتها على هذا التواضع العظيم .. ففي هذه المقارنة هل سنتذكر زوجة ملك عربي راحل تعيش اليوم في أميريكا وتلاحقها قصص ألف ليلة و حكايات مجلات المشاهير وأسرارهم المثيرة؟؟ .. أم نتذكر زوجة أمير عربي نفطي وهي تتنقل بين يخوتها الأسطورية وتدير منها دولة الأمير وابنه ؟؟ .. ام نتذكر زوجة رئيس عربي مخلوع يحكم أكبر بلد كانت تتدخل في الشؤون السياسية والقرارات الداخلية ونتائج البرلمان؟؟ .. أم نتذكر ملكة عربية في مملكة مجاورة تعيش في رحلة حول العالم خارج مملكتها لم تتوقف منذ صارت ملكة وهي تظهر على البرامج الاميركية التلفزيونية مثل عارضات الازياء؟؟ .. أم نتذكر زوجة رئيس عربي شمال افريقي سميت ملكة قرطاج لنفوذها وسطوتها ؟؟ أم نتذكر زوجة ملك وهابي ثرية جدا تمتلك محطات فضاء خليعة وتكتب الصحف عن رحلاتها غريبة الأطوار الباذخة الى فنادق سويسرا ..

 

السيدة أنيسة مخلوف مثلها مثل السيدة تحية كاظم أرملة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لم يرها أحد في سياحة تتسوق من دور الأزياء العالمية .. ولم نرها في حفلات القصور الباذخة على الاطلاق .. ولافي صالونات المجتمع المخملي للسلطة .. ولا في فنادق العالم الاسطورية .. ولم يكن لها يخوت صيفية ولاشتوية .. ولم تتدخل في كواليس السياسة والفساد المالي .. لكن هذه السيدة دفنت ولدين وزوجا وصهرا وعاشت القلق على أبنائها مثل بقية الأمهات وبقيت صابرة صامتة صلبة لم يسمع شكواها أحد ولم يصدر عنها أنين أو غضب أو تحريض أو كراهية .. وعاشت بتواضع وهدوء بعيدا عن الضوضاء الاعلامية وضجيج السياسة ورنين الذهب وغواية السلطة .. الا أن صمتها الجليل الذي يشبه حالة الانطفاء الكامل الذي يتلو التأمل العميق لشحن الروح بالقوة والقناعة يستحق أن يكون مدرسة لعصر كامل .. وشكلا جديدا راقيا لقوة النيرفانا وتفوق الروح بالقناعة على النفس والجسد وشهوات المادة وجشعها ..

  • فريق ماسة
  • 2016-02-06
  • 14094
  • من الأرشيف

أم السوريين وضميرهم .. وسيدة النيرفانا ...بقلم نارام سرجون

سأخالف اليوم البروتوكولات والنصائح .. وسأخرج عن توصيات مكتب الرئاسة وتمنياته .. وسأقول ماأريد أن أقول لأنني أثق بنفسي منذ أن رفضت ثقافة النفاق التي كانت تريد أن تعيش في عقلي فرفضها كما يرفض الجسد العضو المزروع الغريب الذي لايحبه ..   ولفظها دمي على شواطئ عروقي كما يرفض البحر جثث الغرقى ويرميها على الشواطئ .. وسأقول بأن وفاة السيدة أنيسة مخلوف جعلتني فجأة أتذكر أنني أمام ضمير سوري نقي .. به قوة النيرفانا يغادرنا بهدوء .. ولكن الصمت سيعاتبنا ان التزمنا الصمت ازاء هذه السيدة التي صنعت هيبتها من صمتها وزهدها ..   هذه السيدة الكريمة عاش السوريون وهم يسمعون باسمها وهي تحمل لقب السيدة الأولى .. ولكن كل السوريين يعترفون بعد أن عرفوها طويلا بأنها كانت الأكثر نقاء .. وأنها الأم التي كانت مثالا لأننا لم نسمع أن أحدا ناله منها أذى معنوي أو غير معنوي .. أو أنها اعتدت على حق أحد مستغلة صفة السيدة الأولى .. ولم يسمع السوريون يوما أنها استثمرت اسمها ومكانتها لبناء علاقات اجتماعية وسياسية وصالونات لتحيط نفسها بطبقة من المنتفعين والمتملقين والمداحين .. ولم يسمع أحد منذ ظهرت أنها شاركت في مضاربات السياسة والمناصب والتجارة .. ولم تتلوث أصابعها بشركات الفساد السوداء وصفقات الأسواق .. أو أنها مارست سلطاتها المعنوية الكبيرة كسيدة اولى لتمارس نفوذا وتتوسط لصالح أحد ضد القانون .. ويكفي مايقدره السوريون لها أن أولادها - عندما كانوا يعاملون كأبناء الرئيس في المجتمع وبين مسؤولي الدولة - لم يكونوا يتصرفون باستعلاء على الناس أو سادية مريضة لايذاء الناس أو تهديدهم أو استعراض نفوذهم .. وبالرغم من تأثير الزوج على الأبناء فان الأم هي التي تربي أبناءها على هذا التواضع والكرم وأخلاق الفروسية وهي التي تعلم القيم العليا للأبناء ..   والسوريون الذين اشتكوا من الفساد والظلم الذي تمارسه بعض شخصيات الدولة والروتين الاداري البيروقراطي لاتحفظ ذاكرتهم أي حادثة سيئة كان فيها ذكر من قريب أو بعيد للسيدة أنيسة مخلوف أو أن لأبنائها أي سلوك مذموم عندما كانوا في الجامعات وأماكن العمل .. حيث كانت قصص المسؤولين الفاسدين وسلوك أبنائهم مثار استهجان السوريين جميعا وسببا لغضبهم ..   انفردت هذه السيدة العظيمة النقية بأنها لم تتورط بالسياسة والفساد والاستعراض ولم يسمع الناس عنها أنها متعجرفة ومتكبرة ومتسلطة أو أنها تميل للغرور والرفاهية الدنيوية وحياة الترف .. بل كان اعتكافها واطلالاتها المقتضبة الخاطفة وزهدها في بريق السلطة سببا في احترام الجميع لها ..   وربما يستطيع كارهو النظام ومنتقدوه والحاقدون عليه أن يوجهوا سهامهم الى كل شيء فيه والى كل شخص في الدولة ولكنهم يعجزون عن التقاط كلمة واحدة تجرؤ على النيل من نقائها وضميرها وزهدها .. وتجدونهم عاجزين عن القاء حجر واحد على اسمها .. لا بل ان محاولات البعض الرخيصة في الزج باسمها في الشائعات المفبركة في بداية الحرب على سورية لاقت فتورا وعدم تصديق حتى بين جمهور الخصوم ولذلك صمتت تلك المحاولات وماتت خجلة بسرعة ..   وفاة هذه السيدة التي تستحق لقب "أم السوريين" فعلا يجب أن يدفعنا جميعا لأن نتذكر أسماء كل السيدات زوجات الرؤساء والملوك العرب والمسؤولين العرب لنعرف قيمة هذه السيدة الفاضلة المربية لأن المقارنة ستجعلنا نعرف أنه كانت بيننا أم عظيمة وسيدة ننحني لقدرتها على هذا التواضع العظيم .. ففي هذه المقارنة هل سنتذكر زوجة ملك عربي راحل تعيش اليوم في أميريكا وتلاحقها قصص ألف ليلة و حكايات مجلات المشاهير وأسرارهم المثيرة؟؟ .. أم نتذكر زوجة أمير عربي نفطي وهي تتنقل بين يخوتها الأسطورية وتدير منها دولة الأمير وابنه ؟؟ .. ام نتذكر زوجة رئيس عربي مخلوع يحكم أكبر بلد كانت تتدخل في الشؤون السياسية والقرارات الداخلية ونتائج البرلمان؟؟ .. أم نتذكر ملكة عربية في مملكة مجاورة تعيش في رحلة حول العالم خارج مملكتها لم تتوقف منذ صارت ملكة وهي تظهر على البرامج الاميركية التلفزيونية مثل عارضات الازياء؟؟ .. أم نتذكر زوجة رئيس عربي شمال افريقي سميت ملكة قرطاج لنفوذها وسطوتها ؟؟ أم نتذكر زوجة ملك وهابي ثرية جدا تمتلك محطات فضاء خليعة وتكتب الصحف عن رحلاتها غريبة الأطوار الباذخة الى فنادق سويسرا ..   السيدة أنيسة مخلوف مثلها مثل السيدة تحية كاظم أرملة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لم يرها أحد في سياحة تتسوق من دور الأزياء العالمية .. ولم نرها في حفلات القصور الباذخة على الاطلاق .. ولافي صالونات المجتمع المخملي للسلطة .. ولا في فنادق العالم الاسطورية .. ولم يكن لها يخوت صيفية ولاشتوية .. ولم تتدخل في كواليس السياسة والفساد المالي .. لكن هذه السيدة دفنت ولدين وزوجا وصهرا وعاشت القلق على أبنائها مثل بقية الأمهات وبقيت صابرة صامتة صلبة لم يسمع شكواها أحد ولم يصدر عنها أنين أو غضب أو تحريض أو كراهية .. وعاشت بتواضع وهدوء بعيدا عن الضوضاء الاعلامية وضجيج السياسة ورنين الذهب وغواية السلطة .. الا أن صمتها الجليل الذي يشبه حالة الانطفاء الكامل الذي يتلو التأمل العميق لشحن الروح بالقوة والقناعة يستحق أن يكون مدرسة لعصر كامل .. وشكلا جديدا راقيا لقوة النيرفانا وتفوق الروح بالقناعة على النفس والجسد وشهوات المادة وجشعها ..

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة