دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
في قرية معرسته كان «اللقاء». لم تكن معركة فكّ حصار بالمعنى الكلاسيكي، عبر دخول قوات من الخارج إلى قلب المنطقة المحاصرة. حكاية نبّل والزهراء مع الحصار مختلفة عن مثيلاتها في الحرب السورية. ثلاث سنوات ونصف سنة من الدفاع المستميت عن 70 ألف نسمة مهدّدين بالذبح... لا شيء غير «الذبح» الذي رآه أهل البلدتين بحق طفلين من آل شربو في فيديو بثّه تنظيم «داعش» في آب من عام 2013.
في صيف 2012، عُزلت نبّل والزهراء عن العالم الخارجي. عاشت البلدتان على «المصل الجوّي». مساعدات إنسانية تُرمى من الجو، كما مسابقات الطلاب في امتحانات الشهادة الرسمية. حتى هذه الأوراق لم تَسْلم، ففي تموز 2013 استهدف مسلحون بصاروخ حراري مروحية تقل موظفين في مديرية تربية حلب مكلّفين نقل أسئلة الامتحانات إلى البلدتين: 16 شهيداً بين عسكريين ومدنيين كانت الحصيلة. ممنوعة هي الحياة هناك... والعلم بطبيعة الحال. وفي ظل عدم انتظام الإمداد الجوي، كانت المساعدات تصل إلى البلدتين أحياناً كثيرة من خلال منطقة عفرين المجاورة، حيث وحدات حماية الشعب الكردية التي فتحت بعض سبل الإمداد، وكذلك تجار من المنطقة كانوا يبيعون جيرانهم سلعاً ومواد غذائية ترفعهم عن خط الجوع.
822 شهيداً من نبّل والزهراء وُثّقت أسماؤهم حتى أيام قليلة خلت، حين كانت القذائف والصواريخ تنهمر على أحياء البلدتين. دُفن هؤلاء بصمت، لا كاميرات ولا مجتمع دولي يذكرهم عَرَضاً.
كانت الرسالة من المجموعات المسلحة واضحة: ستواصلون مراسم الدفن. فيما كانت الدولة السورية تعلم أنّ فك الحصار وحده الكفيل بإنهاء المعاناة دون أي هِدن أو تسويات على شاكلة «إخراج المسلحين من البلدتين مقابل عدم التعرض للمدنيين».
«الساعة الصفر»
نداءات الاستغاثة المتواصلة منذ فجر الاثنين وفتوى السعودي عبد الله المحيسني «بتوجّه الجميع إلى ساحات الشهباء»، تحيلنا إلى رمزية عملية فك الحصار، وإلى الحالة المعنوية التي يعيشها المسلحون ومشغلوهم.
لا «فتاوى» قاضي «جيش الفتح» ولا «أسود رتل جبهة النصرة في حلب» غيّروا شيئاً من المعادلة الميدانية. منذ سنة، بعد المحاولة الفاشلة الأخيرة لفكّ الحصار، كان الجيش السوري وحلفاؤه يعدّون العدّة لمحاولة جديدة «نظيفة» بالمعنى العسكري.
خريطة تظهر تقدّم الجيش السوري أمس في ريف حلب الشرقي (الإعلام الحربي)
تأجيل مستمر وتحضير متواصل لمعركة بنتيجة واحدة: لقاء المهاجِمين بالمحاصَرين. المعركة برمزيتها إلى جانب تأثيرها الميداني على ريفي حلب الشمالي والغربي وبالتالي مدينة حلب، لم تكن يتيمة، فالميدان السوري انقلب رأساً على عقب منذ شهور: المسلحون يدافعون، منهكون من جبهة إلى أخرى بخطوط إمداد مرصود معظمها. أين ينادي أبو محمد الجولاني و«إخوة المنهج» في «أحرار الشام» وأجانبه؟ إلى ريف اللاذقية الشمالي، أم إلى جبهات العيس وخان طومان في ريف حلب الجنوبي، أم إلى الشيخ مسكين وعتمان في درعا؟
«إمّا هم أو نحن» قال «الأمير» السعودي الشهير في تسجيله الصوتي أول من أمس.
بالنتيجة، بضع ساعات كان الجيش السوري في قرية معرستة يلاقي طلائع «لجان حماية» نبل الزهراء، بعد تحييد رتيان وبيانون وماير بالنار والكمائن.
لم يكن أشدّ المتشائمين من المعارضين يفكّر في سيناريو كهذا، في بقعة مفتوحة منذ سنوات يتمركز فيها أشدّ المقاتلين في الحديقة الخلفية لتركيا.
لكن العودة إلى «تحالف 4 +1» (سوريا ــ إيران ــ روسيا ــ العراق وحزب الله) الناشئ بعد الدخول الروسي في 30 أيلول الماضي، تأخذنا إلى ما هو أبعد من السيطرة على قرية هنا وتأمين مدينة أو طريق حيوي هناك.
«التحالف» وضع نُصب أعينه بنك أهداف واضح «يجب» تحقيقه، والجبهات المفتوحة مرتبطة بضرورات عسكرية وسياسية، هدفها الأخير دحر الإرهاب من كل الأراضي السورية.
لذا، يواصل الحلفاء خطتهم، في ريف حلب الشمالي مثلاً، ببدء «معارك المجنبّات» لحماية الطوق الواصل إلى البلدتين المحاصرتين سابقاً، عبر قضم قرى وبلدات جديدة إلى جانبها، لتكون ماير وبيانون وحيّان وماير في قلب النار. وتشير معلومات الميدان إلى أنّ ماير، الواقعة شرق نبّل، قد تكون أولى المنضمّين إلى «الطوق الموسّع».
«عابرونَ في حصار عابر»
منذ صيف 2012، خاضت ثلّة من أبناء نبل والزهراء معارك وجود. قاتلوا «لواء التوحيد» في أيار 2013، وفي تمّوز صدوا هجوماً عنيفاً ظلّلته راية «داعش» بعد أن قامت خمسة ألوية معارضة بإنشاء غرفة عمليات مشتركة وتسليم القيادة فيها للتنظيم المتطرّف في مسعى لاقتحام البلدتين. بعدَها هاجم «داعش» منفرداً في آب، ليشتدّ الحصار أكثر مع مرور الوقت. انسحب «داعش» من المنطقة إثر المعارك التي اندلعت بينه وبين «النصرة» وحلفائها، ليحمل هؤلاء «راية الحصار». في تشرين الثاني من عام 2014 شنّت «جبهة النصرة» و«حركة أحرار الشام» هجوماً ضخماً، وأتبعتاه بعد أشهر (كانون الثاني 2015) بهجوم هو الأعنف (شهد خروقات في البلدتين)، بمساندة «حركة أنصار الدين» ومجموعات قوقازية، وبآخرَ في كانون الأول الماضي (لا مجال لتعداد عشرات الهجمات «الصغيرة»).
في المحصلة، عرفت البلدتان كل أنواع المهاجمين. تداور الجميع و«تعاونوا» باستماتة لإسقاطهما. لكنّ الكلمةَ الأخيرة كانت لأبناء البلدتين المُدافعين، ولقوّات الجيش وحلفائه. والنتيجةُ النهائية كانت مخالفةً لما نجحَ المسلّحون بتحقيقه في محافظة إدلب مثلاً، أو أي مكان آخر. ما أرادوه معركة معنوية قاصمة للدولة السورية وجمهور المحور الآخر، حصل بالمفعول العكسي، مضافاً إليه التوقيت. فحَدَثُ أمس بالتزامن مع تطوّرات «جنيف 3» وتجميده على وقع نيران حلب والاندفاعة القوية للجيش السوري على مختلف الجبهات يؤشّر إلى ما بعد نبّل والزهراء، ويُكرّس أكثرَ فأكثرَ معادلاتِ الميدان الجديد: الخطوطُ الحمراء إلى زوال.
المصدر :
إيلي حنا /الاخبار
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة