التفجيرات اﻷخيرة في أنقرة تستكمل عناصر غرق تركيا في اﻷزمة التي ساهمت هي في تعميقها وتوسيعها. وليس هناك ما يشير إلى قدرة أردوغان وحزب «العدالة والتنمية» على إدارتها واستيعاب التطورات المتسارعة، للسيطرة عليها والخروج منها.

تركيا تمر اليوم بمرحلة صعبة وغير واضحة المآلات. خلافات داخل «التنمية والعدالة»، أبرز أطرافها أردوغان وداود أوغلو وعبد الله غل. صراع أكثر شراسة على الساحة اﻹسلامية، أخطر أقطابها فتح الله غولن والتمدد البطيء، ولكن المستمر، للحالة التكفيرية التي بدأت تظهر قدرة على اختراق أجهزة الدولة وتوجيه ضربات موجعة لها. مواجهات بين الجيش و «حزب العمال الكردستاني» في جنوب شرق تركيا المتاخم للعراق وسوريا. خلافات عميقة وتناقضات جذرية مع القوميين والعلمانيين والكرد، في الإيديولوجيا وفي السياسات الداخلية والخارجية، وفي الرؤية الاستراتيجية لموقع تركيا ودورها. كل ذلك في ظل فشل في تشكيل حكومة جديدة، وأزمات اقتصادية واجتماعية. وتلك عوامل ضعف ستساعد خصوم أردوغان على إرباك إدارته للانتخابات المبكرة المقبلة، وربما هزيمته. وكان انغماس تركيا أردوغان في «الربيع العربي» عاملا حاسما في وقوعها في المأزق.

 

ظل العداء للحكومة السورية، منذ بدء اﻷزمة، مضبوطاً في حدود يصعب حينها تصنيفه مصدراً للتهديد الخطير للمنطقة. لكن سقوط حكم «اﻹخوان المسلمين» في مصر، وتراجعهم في تونس، وهزيمتهم في اليمن، وحصار حركة «حماس»، شكلت مسائل أثارت غضب أردوغان وذعره، فاندفع إلى مواجهة شرسة في سوريا لتعويض الخسائر والاحتفاظ بأرضية تساعده على حفظ حلمه في زعامة الشرق اﻷوسط والعالم اﻹسلامي، وتبقيه لاعباً أساسياً في الميدان وعلى طاولة المفاوضات. لكنه ارتكب مؤخرا خطأ محاولة فرض تغييرات كبرى في الوقائع الميدانية، فاضطرت روسيا للتدخل عسكرياً. وإذا كان التوسع السوفياتي خلال القرن الماضي، ودخوله شبه جزيرة القرم، قد دفعا تركيا اﻷتاتوركية للانضمام إلى «حلف اﻷطلسي»، فإن الدخول الروسي إلى سوريا (بعد ضم القرم مجدداً) قد يدفع تركيا اﻷردوغانية إلى ارتكاب حماقةٍ تدخل المنطقة مستوى أكثر خطورة وتعقيداً.

لقد أطاح التدخل العسكري الروسي في الميدان السوري مشروع إقامة منطقة عازلة في شمال سوريا، على اﻷرض وفي الجو، مرحلياً على اﻷقل، وسط رفض غربي لهذا المشروع، وبرود إزاءه بلغ ذروته، عندما قرر «اﻷطلسي» سحب بطاريات صواريخ «الباتريوت» من تركيا، وفتور الموقف الغربي مما تعتبره تركيا انتهاكا ﻷجوائها وتهديدا لسيادتها.

أنقرة تنظر بعين الريبة إلى التفاهمات اﻷميركية - الروسية، المعلنة والضمنية، حول قضايا أساسية في سوريا، وتعتبرها تهديداً مباشراً لها ولمشروعها:

- الاتفاق على ضرورة مواجهة تنظيم «داعش»، وهو ذراع عسكرية تستخدمها تركيا في سوريا والعراق.

- دعم «قوات الحماية الشعبية» الكردية في سوريا ورفض الحرب عليها. وفيما تعتبرها واشنطن رأس حربة المواجهة مع «داعش»، تصنفها تركيا تهديداً إرهابياً ﻷمنها.

- التوافق على مرحلة انتقالية يشارك فيها الرئيس اﻷسد، الذي تعتبر أنقرة بقاءه انتكاسة.

الرهان التركي اليوم، معقود على الجهود التي يبذلها الحلف اﻷميركي لعرقلة تقدم روسيا وحلفائها، وتقديم دعم استخباري وبالسلاح النوعي الكثيف للجماعات المسلحة، ورفض التنسيق الميداني مع موسكو، وربما العودة الى الاستثمار في «داعش» العراق.

أي خسارة تركية في سوريا، ستكون أكبر، بما لا يقاس، من خسارتها في مصر وتونس وغيرهما. وهو ما قد يدفع تركيا إلى الالتفات مجددا باتجاه الموصل العراقية، التي ستصبح منفذها اﻷخير إلى الشرق، ودعامة مشروعها اﻷخيرة. في «معاهدة سيفر» العام 1920، وافقت تركيا على ضم ولاية الموصل إلى «العراق الموحد». العبارة اﻷخيرة تستبطن «حق» تركيا بالمطالبة باستعادة الموصل، في حال تعرض وحدة العراق للخلل. هنا، ربما تلجأ أنقرة، في حال اكتمال فشلها في سوريا، إلى اتخاذ وضع العراق اﻷمني والسياسي المضطرب والمنقسم ذريعة، واعتباره لحظة مؤاتية للمطالبة باستعادة الموصل، خصوصا أنها حققت في السنوات اﻷخيرة نجاحات اقتصادية وسياسية، وعقدت تحالفات مهمة مع مسعود البرزاني في اقليم كردستان ومع عشائر في اﻷنبار.

لكن العمل في العراق، لا يقل خطورة وتعقيداً عنه في سوريا. فقواعد اللعبة هناك تغيرت، واﻷميركي لا يراهن على دور أساسي لتركيا، ويضع خطوطاً حمرا أمام الجميع في الموصل واﻷنبار، ويعتبرها رصيده، وقاعدة معركته اﻷساس لاستعادة السيطرة على العراق، ولن يسمح للتركي بالعبث فيها، فيما إيران، التي توشك على التحرر من العقوبات المفروضة، وبالتالي التحرر من حاجتها للرئة التركية اقتصادياً وسياسياً، ليست في وارد ترك المنطقتين خاصرة رخوة، وقاعدة لتهديدها وحلفائها. في هذه اﻷثناء، يتعرض حليف أنقرة في إقليم كردستان ﻷزمة عميقة وخطيرة، قد تحوله إلى لاعب ضعيف أمام منافسيه، اﻷميَل إلى العراق الموحد.

ما هي خيارات أردوغان المحاصر؟ إن أي تراجع دراماتيكي «للعدالة والتنمية» في الانتخابات المقبلة، سيعني نهاية حياة أردوغان السياسية، فسجله حافل بالفساد والمخالفات الخطيرة. وهو شبه محاصر في محيطه المباشر (سوريا والعراق وإيران) وفي مجال بلاده الحيوي (أوروبا و «اﻹخوان المسلمين»). هو يخسر رهانه على «الربيع العربي». صراعه مع السعودية حاد على مجمل ملفات المنطقة. حالة عداء كامل مع مصر. علاقة مأزومة مع الخليج. «إسرائيل»، الحليف اﻹقليمي اﻷهم، تعتبر صراعات تركيا مع الكرد والعرب والتحريض المذهبي، وتراجع قدرة أنقرة على التأثير خدمةً للمصالح الغربية، تجعلها ــ تركيا ــ عبئاً على الغرب، وهو ما يعزز موقع إسرائيل ومصالحها.

حركة أردوغان تشير إلى امتلاكه أجندة خاصة يتصرف على أساسها، ما يجعل التعامل معه أمراً صعبا، وهو يميل إلى المواجهة واستسهال بث الفوضى. وليس أمامه اليوم من سبيل للنجاة، سوى استجماع أدواته وما تبقى من عناصر قوته لمحاولة خلط اﻷوراق، وخلخلة التوازنات، داخل تركيا وخارجها. فهل يفعل؟

  • فريق ماسة
  • 2015-10-20
  • 3135
  • من الأرشيف

أردوغان المحاصَر.. إلى أين يأخذ تركيا؟

التفجيرات اﻷخيرة في أنقرة تستكمل عناصر غرق تركيا في اﻷزمة التي ساهمت هي في تعميقها وتوسيعها. وليس هناك ما يشير إلى قدرة أردوغان وحزب «العدالة والتنمية» على إدارتها واستيعاب التطورات المتسارعة، للسيطرة عليها والخروج منها. تركيا تمر اليوم بمرحلة صعبة وغير واضحة المآلات. خلافات داخل «التنمية والعدالة»، أبرز أطرافها أردوغان وداود أوغلو وعبد الله غل. صراع أكثر شراسة على الساحة اﻹسلامية، أخطر أقطابها فتح الله غولن والتمدد البطيء، ولكن المستمر، للحالة التكفيرية التي بدأت تظهر قدرة على اختراق أجهزة الدولة وتوجيه ضربات موجعة لها. مواجهات بين الجيش و «حزب العمال الكردستاني» في جنوب شرق تركيا المتاخم للعراق وسوريا. خلافات عميقة وتناقضات جذرية مع القوميين والعلمانيين والكرد، في الإيديولوجيا وفي السياسات الداخلية والخارجية، وفي الرؤية الاستراتيجية لموقع تركيا ودورها. كل ذلك في ظل فشل في تشكيل حكومة جديدة، وأزمات اقتصادية واجتماعية. وتلك عوامل ضعف ستساعد خصوم أردوغان على إرباك إدارته للانتخابات المبكرة المقبلة، وربما هزيمته. وكان انغماس تركيا أردوغان في «الربيع العربي» عاملا حاسما في وقوعها في المأزق.   ظل العداء للحكومة السورية، منذ بدء اﻷزمة، مضبوطاً في حدود يصعب حينها تصنيفه مصدراً للتهديد الخطير للمنطقة. لكن سقوط حكم «اﻹخوان المسلمين» في مصر، وتراجعهم في تونس، وهزيمتهم في اليمن، وحصار حركة «حماس»، شكلت مسائل أثارت غضب أردوغان وذعره، فاندفع إلى مواجهة شرسة في سوريا لتعويض الخسائر والاحتفاظ بأرضية تساعده على حفظ حلمه في زعامة الشرق اﻷوسط والعالم اﻹسلامي، وتبقيه لاعباً أساسياً في الميدان وعلى طاولة المفاوضات. لكنه ارتكب مؤخرا خطأ محاولة فرض تغييرات كبرى في الوقائع الميدانية، فاضطرت روسيا للتدخل عسكرياً. وإذا كان التوسع السوفياتي خلال القرن الماضي، ودخوله شبه جزيرة القرم، قد دفعا تركيا اﻷتاتوركية للانضمام إلى «حلف اﻷطلسي»، فإن الدخول الروسي إلى سوريا (بعد ضم القرم مجدداً) قد يدفع تركيا اﻷردوغانية إلى ارتكاب حماقةٍ تدخل المنطقة مستوى أكثر خطورة وتعقيداً. لقد أطاح التدخل العسكري الروسي في الميدان السوري مشروع إقامة منطقة عازلة في شمال سوريا، على اﻷرض وفي الجو، مرحلياً على اﻷقل، وسط رفض غربي لهذا المشروع، وبرود إزاءه بلغ ذروته، عندما قرر «اﻷطلسي» سحب بطاريات صواريخ «الباتريوت» من تركيا، وفتور الموقف الغربي مما تعتبره تركيا انتهاكا ﻷجوائها وتهديدا لسيادتها. أنقرة تنظر بعين الريبة إلى التفاهمات اﻷميركية - الروسية، المعلنة والضمنية، حول قضايا أساسية في سوريا، وتعتبرها تهديداً مباشراً لها ولمشروعها: - الاتفاق على ضرورة مواجهة تنظيم «داعش»، وهو ذراع عسكرية تستخدمها تركيا في سوريا والعراق. - دعم «قوات الحماية الشعبية» الكردية في سوريا ورفض الحرب عليها. وفيما تعتبرها واشنطن رأس حربة المواجهة مع «داعش»، تصنفها تركيا تهديداً إرهابياً ﻷمنها. - التوافق على مرحلة انتقالية يشارك فيها الرئيس اﻷسد، الذي تعتبر أنقرة بقاءه انتكاسة. الرهان التركي اليوم، معقود على الجهود التي يبذلها الحلف اﻷميركي لعرقلة تقدم روسيا وحلفائها، وتقديم دعم استخباري وبالسلاح النوعي الكثيف للجماعات المسلحة، ورفض التنسيق الميداني مع موسكو، وربما العودة الى الاستثمار في «داعش» العراق. أي خسارة تركية في سوريا، ستكون أكبر، بما لا يقاس، من خسارتها في مصر وتونس وغيرهما. وهو ما قد يدفع تركيا إلى الالتفات مجددا باتجاه الموصل العراقية، التي ستصبح منفذها اﻷخير إلى الشرق، ودعامة مشروعها اﻷخيرة. في «معاهدة سيفر» العام 1920، وافقت تركيا على ضم ولاية الموصل إلى «العراق الموحد». العبارة اﻷخيرة تستبطن «حق» تركيا بالمطالبة باستعادة الموصل، في حال تعرض وحدة العراق للخلل. هنا، ربما تلجأ أنقرة، في حال اكتمال فشلها في سوريا، إلى اتخاذ وضع العراق اﻷمني والسياسي المضطرب والمنقسم ذريعة، واعتباره لحظة مؤاتية للمطالبة باستعادة الموصل، خصوصا أنها حققت في السنوات اﻷخيرة نجاحات اقتصادية وسياسية، وعقدت تحالفات مهمة مع مسعود البرزاني في اقليم كردستان ومع عشائر في اﻷنبار. لكن العمل في العراق، لا يقل خطورة وتعقيداً عنه في سوريا. فقواعد اللعبة هناك تغيرت، واﻷميركي لا يراهن على دور أساسي لتركيا، ويضع خطوطاً حمرا أمام الجميع في الموصل واﻷنبار، ويعتبرها رصيده، وقاعدة معركته اﻷساس لاستعادة السيطرة على العراق، ولن يسمح للتركي بالعبث فيها، فيما إيران، التي توشك على التحرر من العقوبات المفروضة، وبالتالي التحرر من حاجتها للرئة التركية اقتصادياً وسياسياً، ليست في وارد ترك المنطقتين خاصرة رخوة، وقاعدة لتهديدها وحلفائها. في هذه اﻷثناء، يتعرض حليف أنقرة في إقليم كردستان ﻷزمة عميقة وخطيرة، قد تحوله إلى لاعب ضعيف أمام منافسيه، اﻷميَل إلى العراق الموحد. ما هي خيارات أردوغان المحاصر؟ إن أي تراجع دراماتيكي «للعدالة والتنمية» في الانتخابات المقبلة، سيعني نهاية حياة أردوغان السياسية، فسجله حافل بالفساد والمخالفات الخطيرة. وهو شبه محاصر في محيطه المباشر (سوريا والعراق وإيران) وفي مجال بلاده الحيوي (أوروبا و «اﻹخوان المسلمين»). هو يخسر رهانه على «الربيع العربي». صراعه مع السعودية حاد على مجمل ملفات المنطقة. حالة عداء كامل مع مصر. علاقة مأزومة مع الخليج. «إسرائيل»، الحليف اﻹقليمي اﻷهم، تعتبر صراعات تركيا مع الكرد والعرب والتحريض المذهبي، وتراجع قدرة أنقرة على التأثير خدمةً للمصالح الغربية، تجعلها ــ تركيا ــ عبئاً على الغرب، وهو ما يعزز موقع إسرائيل ومصالحها. حركة أردوغان تشير إلى امتلاكه أجندة خاصة يتصرف على أساسها، ما يجعل التعامل معه أمراً صعبا، وهو يميل إلى المواجهة واستسهال بث الفوضى. وليس أمامه اليوم من سبيل للنجاة، سوى استجماع أدواته وما تبقى من عناصر قوته لمحاولة خلط اﻷوراق، وخلخلة التوازنات، داخل تركيا وخارجها. فهل يفعل؟

المصدر : السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة