سقطت الحرب السورية منظومة القيم الّتي كانت تَحكم المجتمع السوري. كلّ الحروب تؤدّي إلى نتائج مماثلة، اذ يتراجع كلّ ما هو عام لمصلحة كل ما هو خاص، ويصير الفرد أحيانا منشغلاً بذاته فقط، لاهثاً خلف تأمين قوتِ يومه، باحثاً عن أسبابِ أمانه، ساعياً إلى تحصيل مكتسباتٍ شخصيّة لم تكن متاحةً قبلاً.

ضمن هذا السّياق يمكن تفسير جملة البشاعات الّتي صدرت عن بعض السوريين وصارت جزءًا من سلوكهم خلال السنوات الخمس الماضية، حتّى أنّ بعضهم قد حوّل هذه الممارساتِ إلى مهنٍ ينتفع منها، مثل الخطف وطلبِ الفديات، أو الإتجار بالعمليات الأجنبية بصورةٍ غير شرعية، أو «التعفيش».

والتعفيش، مصطلحُ وُلد أثناءَ الحرب، ويعني: سرقة «عفش» (أثاث) المنازل الواقعة في المناطق الّتي تنتهي فيها الاشتباكات، ثمّ القيام ببيع هذا العفش في سوقٍ تمّ تخصيصها لهذا الغرض، تدعى «سوق الحراميّة» أو «سوق المستعمل» على سبيل استخدام عبارةٍ أقلّ فظاظة.

يتحدّث أبو هاني (اسمٌ مستعار)، وهو أحد السكّان القدامى لمنخفض وادي السّايح في حمص، عن تجربته قائلاً «حين وصلت الاشتباكات إلى مدخل الحيّ، هربت مع عائلتي، وحاولنا أن نخرج معنا كلّ ما خفّ وزنه وغلا ثمنه، ولم نكترث بجلبِ ملابسنا، ولم نلتفت إلى شقاءِ العمر الّذي تركناه وراءنا، إذ كنّا نعتقد أنّ القتال سوف يتوقّف سريعاً، وأنّنا سوف نعود إلى بيوتنا بينَ يومٍ وليلة. لكنّ الحرب دامت، واستراحت في حارتنا أكثر مما اعتقدنا، وفي النهاية فقدنا كلّ شيء».

ويستطرد «بعد التسوية الكبيرة في حمص، عدنا لنتفحّص الحيّ. كان الأمر كابوسياً للغاية. بعضُ البيوت مدمّرة، وبعضها متداعٍ آيلٌ للسقوط، وبعضها الآخر، مثل بيتنا، كان محترقاً تماماً، وكأنّك أمام صندوقِ فحمٍ كبير لا أثاث فيه. ولم نكن الوحيدين، فالحيّ نُهبَ عن بكرة أبيه».

ويتابع الرجل الستيني قائلاً «من قام بسرقة بيوتنا هم مقاتلون مرتبطون بالحكومة، يحاربون إلى جانب الجيش، لكنّهم يسيئون إليه ولتضحياته. لستُ أفهم كيف كانوا يقومون بنقل الأثاث خارج الحارة وخصومهم متربّصون على محيطها؟ هل جاؤوا ليدافعوا عن بيوتنا أم ليسرقوها؟».

ويختتم الرجل «المفارقة أنّني شاهدت غرفة الجلوس الّتي اشتريتها قبل الحرب بعامين معروضةً في سوقِ الأدوات المستعملة، فاشتريتها مجدداً. بكت زوجتي كثيراً حين رأتها. في سوريا فقط أنت تدفع ثمن أثاث بيتِك مرّتين».

«سوق الحرامية» المستعملة لتصريف البضائع المسروقة هي سوقٌ تحكمها أعرافٌ ثابتة، إذ لا يحقّ لمجموعةٍ سُمح لها أن تفرد بضاعتها في هذا الحيّز أن تتجاوزه نحو حيّزٍ خُصّص لمجموعةٍ ثانيةٍ من اللصوص. هذا التحاصص يجري بالتنسيق بين «أمراء التعفيش» وهم قادةُ «المقاتلين المرتبطين بالحكومة» كما أسماهم أبو هاني، في ما تتعلّق قطّاعات التصريف بنفوذِ كلّ كتيبةٍ وحجم قوّتها. كما أنّ نوعيّة البيوت المسموح بسرقتها ترتبط أيضاً بنفوذ الكتائب السابقة الذكر، وبعبارةٍ أخرى: لا يحقّ للكتائب المُحدَثة وغير الوازنة أن «تُعفّش» بيوتَ منطقةِ مُترفةٍ حيث تكون البضائع المنهوبة غالية الثمن وذات مردود ربحيّ عالٍ، وقد يُسمح لهذه القوى، الصغيرة نسبياً، بسرقة كتلٍ سكنيّةٍ فقيرة في الأرياف أو في عشوائيّات المدن على أحسن تقدير.

«المُدهش في عملية التعفيش أنّها تَنخرُ البناءَ بكلّ ما فيه» يقول أبو هاني، موضحاً ان «السرقة لا تقتصر على الأثاث والكهربائيات فقط، بل تتجاوزها إلى حدّ نزع بلاط الأرض وإعادة بيعه، أو هدم الجدران وسرقة كابلات النحاس الممدودة داخلها كناقلات كهربائية، إضافةً إلى فكّ مفاتيح الضوءِ وصنابير المياه وأبوابِ المنازل وألومينيوم النوافذ وزجاجِ المرايا ونقلها إلى سوق الحراميّة».

ويختتم الرجل حديثه ساخراً «العفّيشة يُشكلون معادلاً بشرياً للجراد الجائع الّذي يجتاح الحقول فلا يترك فيها أثراً لشيء حيّ».

فعل «التعفيش» ليس حكراً على «المقاتلين المرتبطين بالحكومة»، كما أنّ أسواق تصريف البضائع المسروقة ليست محليّة فقط، وهذا ما نستطيع إثباته حين نتحدّث عن المدينة الصناعية في حلب الّتي تعرّضت، بحسبِ تدوينات كثيرة لرئيس مجلس إدارة غرفة صناعة حلب فارس الشهابي، إلى أكبر عملية سطوٍ مسلّح عرفتها البلاد، حيث أقدمت فصائلُ مسلّحة تابعةٌ لقوّات المعارضة على نقل تجهيزات المدينة، التي تتجاوز مساحتها 4400 هكتار، نحو الداخل التركيّ ليصار هناكَ إلى بيعها تباعاً، الأمر الّذي جعل المدينة تخرج من دائرة الإنتاج نهائياً قبل أن ينجح الجيش السوري في استعادتها في أواسط العام 2014 لتشرع الحكومة في القيامِ بما هو متاحٌ من ترميمات وإصلاحات أعادت، بموجبها، ما يزيد عن 360 معملاً إلى حقل الإنتاج مجدداً.

  • فريق ماسة
  • 2015-10-01
  • 13893
  • من الأرشيف

«التعفيش»: نهب منظم إلى «سوق الحرامية»/ رامي كوسا

سقطت الحرب السورية منظومة القيم الّتي كانت تَحكم المجتمع السوري. كلّ الحروب تؤدّي إلى نتائج مماثلة، اذ يتراجع كلّ ما هو عام لمصلحة كل ما هو خاص، ويصير الفرد أحيانا منشغلاً بذاته فقط، لاهثاً خلف تأمين قوتِ يومه، باحثاً عن أسبابِ أمانه، ساعياً إلى تحصيل مكتسباتٍ شخصيّة لم تكن متاحةً قبلاً. ضمن هذا السّياق يمكن تفسير جملة البشاعات الّتي صدرت عن بعض السوريين وصارت جزءًا من سلوكهم خلال السنوات الخمس الماضية، حتّى أنّ بعضهم قد حوّل هذه الممارساتِ إلى مهنٍ ينتفع منها، مثل الخطف وطلبِ الفديات، أو الإتجار بالعمليات الأجنبية بصورةٍ غير شرعية، أو «التعفيش». والتعفيش، مصطلحُ وُلد أثناءَ الحرب، ويعني: سرقة «عفش» (أثاث) المنازل الواقعة في المناطق الّتي تنتهي فيها الاشتباكات، ثمّ القيام ببيع هذا العفش في سوقٍ تمّ تخصيصها لهذا الغرض، تدعى «سوق الحراميّة» أو «سوق المستعمل» على سبيل استخدام عبارةٍ أقلّ فظاظة. يتحدّث أبو هاني (اسمٌ مستعار)، وهو أحد السكّان القدامى لمنخفض وادي السّايح في حمص، عن تجربته قائلاً «حين وصلت الاشتباكات إلى مدخل الحيّ، هربت مع عائلتي، وحاولنا أن نخرج معنا كلّ ما خفّ وزنه وغلا ثمنه، ولم نكترث بجلبِ ملابسنا، ولم نلتفت إلى شقاءِ العمر الّذي تركناه وراءنا، إذ كنّا نعتقد أنّ القتال سوف يتوقّف سريعاً، وأنّنا سوف نعود إلى بيوتنا بينَ يومٍ وليلة. لكنّ الحرب دامت، واستراحت في حارتنا أكثر مما اعتقدنا، وفي النهاية فقدنا كلّ شيء». ويستطرد «بعد التسوية الكبيرة في حمص، عدنا لنتفحّص الحيّ. كان الأمر كابوسياً للغاية. بعضُ البيوت مدمّرة، وبعضها متداعٍ آيلٌ للسقوط، وبعضها الآخر، مثل بيتنا، كان محترقاً تماماً، وكأنّك أمام صندوقِ فحمٍ كبير لا أثاث فيه. ولم نكن الوحيدين، فالحيّ نُهبَ عن بكرة أبيه». ويتابع الرجل الستيني قائلاً «من قام بسرقة بيوتنا هم مقاتلون مرتبطون بالحكومة، يحاربون إلى جانب الجيش، لكنّهم يسيئون إليه ولتضحياته. لستُ أفهم كيف كانوا يقومون بنقل الأثاث خارج الحارة وخصومهم متربّصون على محيطها؟ هل جاؤوا ليدافعوا عن بيوتنا أم ليسرقوها؟». ويختتم الرجل «المفارقة أنّني شاهدت غرفة الجلوس الّتي اشتريتها قبل الحرب بعامين معروضةً في سوقِ الأدوات المستعملة، فاشتريتها مجدداً. بكت زوجتي كثيراً حين رأتها. في سوريا فقط أنت تدفع ثمن أثاث بيتِك مرّتين». «سوق الحرامية» المستعملة لتصريف البضائع المسروقة هي سوقٌ تحكمها أعرافٌ ثابتة، إذ لا يحقّ لمجموعةٍ سُمح لها أن تفرد بضاعتها في هذا الحيّز أن تتجاوزه نحو حيّزٍ خُصّص لمجموعةٍ ثانيةٍ من اللصوص. هذا التحاصص يجري بالتنسيق بين «أمراء التعفيش» وهم قادةُ «المقاتلين المرتبطين بالحكومة» كما أسماهم أبو هاني، في ما تتعلّق قطّاعات التصريف بنفوذِ كلّ كتيبةٍ وحجم قوّتها. كما أنّ نوعيّة البيوت المسموح بسرقتها ترتبط أيضاً بنفوذ الكتائب السابقة الذكر، وبعبارةٍ أخرى: لا يحقّ للكتائب المُحدَثة وغير الوازنة أن «تُعفّش» بيوتَ منطقةِ مُترفةٍ حيث تكون البضائع المنهوبة غالية الثمن وذات مردود ربحيّ عالٍ، وقد يُسمح لهذه القوى، الصغيرة نسبياً، بسرقة كتلٍ سكنيّةٍ فقيرة في الأرياف أو في عشوائيّات المدن على أحسن تقدير. «المُدهش في عملية التعفيش أنّها تَنخرُ البناءَ بكلّ ما فيه» يقول أبو هاني، موضحاً ان «السرقة لا تقتصر على الأثاث والكهربائيات فقط، بل تتجاوزها إلى حدّ نزع بلاط الأرض وإعادة بيعه، أو هدم الجدران وسرقة كابلات النحاس الممدودة داخلها كناقلات كهربائية، إضافةً إلى فكّ مفاتيح الضوءِ وصنابير المياه وأبوابِ المنازل وألومينيوم النوافذ وزجاجِ المرايا ونقلها إلى سوق الحراميّة». ويختتم الرجل حديثه ساخراً «العفّيشة يُشكلون معادلاً بشرياً للجراد الجائع الّذي يجتاح الحقول فلا يترك فيها أثراً لشيء حيّ». فعل «التعفيش» ليس حكراً على «المقاتلين المرتبطين بالحكومة»، كما أنّ أسواق تصريف البضائع المسروقة ليست محليّة فقط، وهذا ما نستطيع إثباته حين نتحدّث عن المدينة الصناعية في حلب الّتي تعرّضت، بحسبِ تدوينات كثيرة لرئيس مجلس إدارة غرفة صناعة حلب فارس الشهابي، إلى أكبر عملية سطوٍ مسلّح عرفتها البلاد، حيث أقدمت فصائلُ مسلّحة تابعةٌ لقوّات المعارضة على نقل تجهيزات المدينة، التي تتجاوز مساحتها 4400 هكتار، نحو الداخل التركيّ ليصار هناكَ إلى بيعها تباعاً، الأمر الّذي جعل المدينة تخرج من دائرة الإنتاج نهائياً قبل أن ينجح الجيش السوري في استعادتها في أواسط العام 2014 لتشرع الحكومة في القيامِ بما هو متاحٌ من ترميمات وإصلاحات أعادت، بموجبها، ما يزيد عن 360 معملاً إلى حقل الإنتاج مجدداً.

المصدر : الماسة السورية/ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة