لم ينتبه الكثيرون إلى أن يوم أمس كان الذكرى الرابعة عشرة لتأسيس «حزب العدالة والتنمية» في تركيا في العام 2001.

  14 عاماً بالتمام مرت، أمضى منها الحزب 13 عاماً في السلطة منفرداً، بعدما نجح في احتلال المركز الأول في انتخابات 3 تشرين الثاني العام 2002.

 14 عاماً مرت على حكاية بدأت بنجاح شامل وانتهت إلى إفلاس كامل.

في التنمية الاقتصادية، التي كان يفتخر الحزب بأنها ساحته الأكثر نجاحاً، بدأت منذ العام 2013 المؤشرات الاقتصادية تتراجع بصورة واضحة على جميع المستويات. تراجع حجم التجارة الخارجية، انهيار سعر صرف الليرة الذي يتجه لملامسة الثلاث ليرات أمام الدولار، ازدياد الدين العام، ارتفاع نسبة التضخم ونسبة العاطلين عن العمل وتراجع الاستثمارات الأجنبية، كما الناتج القومي غير الصافي ومرتبة تركيا في الاقتصاديات العالمية.

وفي ما سُمّي بالتنمية السياسية، لم يستطع «حزب العدالة والتنمية» المحافظة على الإجماع الذي حظي به في البداية. وبعدما كان يُعطي الأمل بحلول للمشكلات الكردية والعلوية، وفي تعزيز الحريات والديموقراطية والحقوق الأساسية، إذ به ينقضّ على وعوده، ويحيل تركيا إلى ملعب للاستقطاب غير المسبوق وللنزعات المذهبية والعرقية وقمع الحريات واضطهاد الأصوات المعارضة. ومن الأمل بتركيا نموذجاً للديموقراطية إذا بها تتحول على يد «العدالة والتنمية» ممراً لإقامة سلطة الحزب الواحد والفرد الواحد، في عودة لنماذج الحكم في الثلاثينيات في تركيا نفسها وفي ألمانيا وإيطاليا.

ولعل تجربة تعاطي «حزب العدالة والتنمية» مع نتائج انتخابات السابع من حزيران الماضي، التي منعته من التفرد بالسلطة، كانت بمثابة جرس إنذار لما ينتظر تركيا من توترات واضطرابات. إذ أبى الرئيس رجب طيب أردوغان أن يتقبل النتائج، وضغط لانتخابات مبكرة، في وقت بالكاد أدى النواب الجدد يمين قسمهم، بعدما كان أردوغان في السابق يقول للأتراك إن عليهم أن يتعودوا على إجراء الانتخابات في موعدها.

لكن عندما انتهت الانتخابات الأخيرة لغير مصلحته، لم ينتظر دقيقة واحدة ليقوم بانقلاب القصر، ويمنع تشكيل الحكومة الجديدة، ليذهب إلى انتخابات مبكرة، مخيراً الناخبين بين الحريق الشامل او الطاعة الكاملة. وهذا يطرح تساؤلات كبيرة حول مدى قبول الحركة الإسلامية في تركيا بمبدأ تداول السلطة، وما إذا كانت التجربة التركية ستنتهي إلى حرب بين الإسلاميين وبين القوى الديموقراطية.

كانت الخيبة الأكبر لدى الشعب التركي عندما فشل «حزب العدالة والتنمية» في أن يحقق أي خطوة جدية في حل إحدى أكثر المشكلات المزمنة في تركيا، أي مشكلة العلويين، حيث تبين أن الحزب كان يطلق الوعود الكاذبة. وبالإمكان أن نسأل اليوم، بعد 13 عاماً من السلطة، عن السبب الذي كان يمنع من تلبية المطالب العلوية؟

أما على صعيد المسألة الكردية، الأكثر تعقيداً من المسألة العلوية، فكانت الفشل الأبرز. فبعد سنوات من الهدوء، وبعد سنتين ونصف من المفاوضات بين الدولة وزعيم «حزب العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان في سجنه، كانت النتيجة انفجار الصراع المسلح من جديد على امتداد الساحة التركية. 13 عاماً من السلطة، وسنتان ونصف السنة من المفاوضات، والنتيجة صفراً، والأكراد على ما يبدو يستسيغون أن يُلدغوا من جحرهم مرة ومثنى وثلاثاً ورباعاً، عندما قبلوا بأن يتلاعب رئيس السلطة رجب طيب أردوغان بهم لتمرير الوقت وفقاً لظروفه الخارجية أو الداخلية، وكانوا يأملون منه خيراً على أساس أنه الوحيد القادر على تلبية المطالب، أو جزء منها إذا أراد، فلم يطوروا أية استراتيجية مضادة، وكانوا يعتمدون على ردة الفعل لا المبادرة.

ولعل النجاح الأكبر الذي حققه الأكراد كان للمفارقة في مجال السياسة وليس الحرب. فهم الذين كسروا أردوغان في الانتخابات النيابية الماضية، وحطّموا أحلامه في نظام رئاسي، بل حرموه من الاستمرار منفرداً بالسلطة، فبات يهيم يميناً وشمالاً باحثاً عن مخرج لمأزقه، فلم يجد سوى توتير الوضع وفتح جبهة عسكرية ضد «حزب العمال الكردستاني»، عله يكسب بعض أصوات إضافية من الفئات القومية التركية في انتخابات مبكرة، يضغط لإجرائها في الخريف المقبل.

بعد سنتين ونيف من المفاوضات يمكن التساؤل عن الذي قدّمه أردوغان للأكراد، مقابل الهدوء الذي أعطاه إياه الأكراد. الجواب هو لا شيء. تماماً كما كان الجواب بالنسبة للمسألة العلوية.

ومن صورة «نظيف الكفّ» أيام بلدية اسطنبول، يخوض أردوغان اليوم حرب منع المساءلة في فضائح الفساد التي في حال فتحت ستهزّ الحزب والعائلة الحاكمة. والتي ستكون امتحاناً حساساً وأخلاقياً لكل حزب يدخل في ائتلاف حكومي مع «العدالة والتنمية». إن أحد أهم أسباب عرقلة أردوغان تشكيل حكومة إئتلافية هو خوفه من فتح ملفات الفساد.

ولا يحسد أحد تركيا في عهد «حزب العدالة والتنمية» على قمع الحريات وملاحقة الصحافيين، ونعتهم بالعملاء للخارج والتجسس. أما الفصل بين السلطات فبات في خبر كان، حيث باتت السلطة القضائية طوع بنان وزير العدل بعد تعديل القوانين خلافاً للمعايير الأوروبية المطالبة أنقرة بالتزامها. والقاضي الذي كان رمزاً لمحاكمة الجنرالات بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم في ما سُمّي بقضية «أرغينيكون»، أصبح مطارداً بتهم التآمر لقلب نظام الحكم. وهاهو زكريا أوز يهرب من تركيا قبل أيام إلى جورجيا ومنها إلى أرمينيا ربما، أو إلى روسيا أو إلى بلاد الله الواسعة. ذنب زكريا أوز أنه قاد التحقيقات في فضيحة الفساد التي ظهرت في نهاية العام 2013 والتي أثبتت تورط أربعة وزراء وأبنائهم وبلال ابن أردوغان وغيرهم في سرقة الأموال وتخبئتها في صناديق أحذية داخل منازلهم.

تحوّل «نموذج» حزب «العدالة والتنمية» إلى موضع تندر وسخرية بعدما كان المثال الذي تطلّع إليه العالم الإسلامي.

أما في السياسة الخارجية فكان الانهيار الدراماتيكي. لم تعمر نظرية «صفر مشكلات» أكثر من ست أو سبع سنوات، ولتتحول نظرية «العمق الاستراتيجي» إلى نموذج للنظريات الاستراتيجية الأسرع انهياراً في التاريخ، ويمكن لها أن تدرج في موسوعة «غينيس». باتت تركيا معزولة عن الجميع من أعداء وأصدقاء بعدما نصّب أردوغان ورئيس الحكومة أحمد داود اوغلو نفسيهما وصيين على شؤون الدول الأخرى، من سوريا إلى مصر ومن تونس إلى اليمن وصولاً إلى الإمارات بل السعودية أيضاً. سقط المشروع العثماني لـ «حزب العدالة والتنمية» بعدما انهارت ركيزته الأولى بالفشل في إسقاط الرئيس بشار الأسد وانهارت الثانية بإسقاط نظام محمد مرسي في القاهرة.

وانتقل «الإسلام المعتدل» ليصبح الحاضنة لأكثر التنظيمات الإرهابية تطرفاً، مثل «داعش» و «جبهة النصرة» ومن يوصفون زوراً بالمعتدلين. ولسوف تنكشف الدفاتر الأصلية لكل هذا الدعم ولو بعد خمسين سنة. لقد بان أن سياسة «صفر مشكلات» لم تكن سوى مدخل لسياسات الهيمنة من الداخل في البداية والاحتلال من الخارج. فمن الذي يجيز لتركيا أن تموّل وتسلح الجماعات المسلحة في سوريا والعراق؟ وأي شرعية دولية تمنح تركيا الحق في أن تعلن أنها ستقيم منطقة عازلة وترسل إليها عشرة آلاف تركماني ومن «الجيش السوري الحر»؟ وأي أعراف تسمح لتركيا أن تُمعن في دعم قوى داخل سوريا مثل «داعش» على قوى أخرى، مثل الأكراد وتقول إنها ستمنع تمدّدهم إلى جرابلس واعزاز ومارع وما إلى ذلك؟ هل هذه الأرض أرضها، وهل هؤلاء مواطنون أتراك؟

لقد ضربت تركيا بعرض الحائط كل مبادئ علاقات حسن الجوار واحترام السيادة الداخلية للدول الأخرى. وكل ما يمكن أن نسأله هل تقبل أنقرة أن تبادر أي دولة إقليمية أو دولية إلى التذرع بقمع الدولة التركية للأكراد، أو باضطهاد العلويين، لتتدخل في الشؤون الداخلية لتركيا وتموّل وتسلّح الجماعات المعارضة، بل تقيم مناطق عازلة داخل تركيا وتدعو إلى رحيل أردوغان وداود اوغلو بطريقة سلمية أو عنفية، وتحدد خريطة طريق لتغيير النظام القائم؟

نسوق هذه الأسئلة لنقول إن سلوكيات مشابهة لأي دولة لا يمكن القبول بها من جهة، ولا يمكن أن تبقى بلا محاسبة ولو بعد عقود. فالتاريخ قد يُمهِل، لحسابات القدرة والقوة، لكنه لن يغفر لهؤلاء المتخفّين بزي ديني «معتدل» أنهم كانوا في أساس تدمير الكيانات السياسية لدول عديدة في المنطقة من سوريا إلى العراق فليبيا، بل حتى مصر. وكانوا في أساس تمزيق المجتمعات بالعزف على الخطابات المذهبية والعرقية.

أما «حكاية» تركيا مع الاتحاد الأوروبي فكانت الأكثر تراجعاً، حيث جمود مطلق في المفاوضات منذ العام 2005 مع استبدال أردوغان، في لحظة الحلم بتزعم العالم الإسلامي، معايير كوبنهاغن بما سمّاه «معايير أنقرة»، وما أدراك ما معايير أنقرة!

14 عاماً على تأسيس «حزب العدالة والتنمية» في تركيا. 14 عاماً على تجربة مظلمة في تاريخ المنطقة والعالم الإسلامي. تجربة أسست لمعايير التفرقة والفتنة والعدوان والتسلط والشخصانية. تجربة لن تعرف نهاية قبل أن تدمّر تركيا والمنطقة كلها.

  • فريق ماسة
  • 2015-08-14
  • 4455
  • من الأرشيف

14 عاماً على تأسيس «العدالة والتنمية»: من نجاح شامل.. إلى إفلاس كامل ...بقلم محمد نور الدين

لم ينتبه الكثيرون إلى أن يوم أمس كان الذكرى الرابعة عشرة لتأسيس «حزب العدالة والتنمية» في تركيا في العام 2001.   14 عاماً بالتمام مرت، أمضى منها الحزب 13 عاماً في السلطة منفرداً، بعدما نجح في احتلال المركز الأول في انتخابات 3 تشرين الثاني العام 2002.  14 عاماً مرت على حكاية بدأت بنجاح شامل وانتهت إلى إفلاس كامل. في التنمية الاقتصادية، التي كان يفتخر الحزب بأنها ساحته الأكثر نجاحاً، بدأت منذ العام 2013 المؤشرات الاقتصادية تتراجع بصورة واضحة على جميع المستويات. تراجع حجم التجارة الخارجية، انهيار سعر صرف الليرة الذي يتجه لملامسة الثلاث ليرات أمام الدولار، ازدياد الدين العام، ارتفاع نسبة التضخم ونسبة العاطلين عن العمل وتراجع الاستثمارات الأجنبية، كما الناتج القومي غير الصافي ومرتبة تركيا في الاقتصاديات العالمية. وفي ما سُمّي بالتنمية السياسية، لم يستطع «حزب العدالة والتنمية» المحافظة على الإجماع الذي حظي به في البداية. وبعدما كان يُعطي الأمل بحلول للمشكلات الكردية والعلوية، وفي تعزيز الحريات والديموقراطية والحقوق الأساسية، إذ به ينقضّ على وعوده، ويحيل تركيا إلى ملعب للاستقطاب غير المسبوق وللنزعات المذهبية والعرقية وقمع الحريات واضطهاد الأصوات المعارضة. ومن الأمل بتركيا نموذجاً للديموقراطية إذا بها تتحول على يد «العدالة والتنمية» ممراً لإقامة سلطة الحزب الواحد والفرد الواحد، في عودة لنماذج الحكم في الثلاثينيات في تركيا نفسها وفي ألمانيا وإيطاليا. ولعل تجربة تعاطي «حزب العدالة والتنمية» مع نتائج انتخابات السابع من حزيران الماضي، التي منعته من التفرد بالسلطة، كانت بمثابة جرس إنذار لما ينتظر تركيا من توترات واضطرابات. إذ أبى الرئيس رجب طيب أردوغان أن يتقبل النتائج، وضغط لانتخابات مبكرة، في وقت بالكاد أدى النواب الجدد يمين قسمهم، بعدما كان أردوغان في السابق يقول للأتراك إن عليهم أن يتعودوا على إجراء الانتخابات في موعدها. لكن عندما انتهت الانتخابات الأخيرة لغير مصلحته، لم ينتظر دقيقة واحدة ليقوم بانقلاب القصر، ويمنع تشكيل الحكومة الجديدة، ليذهب إلى انتخابات مبكرة، مخيراً الناخبين بين الحريق الشامل او الطاعة الكاملة. وهذا يطرح تساؤلات كبيرة حول مدى قبول الحركة الإسلامية في تركيا بمبدأ تداول السلطة، وما إذا كانت التجربة التركية ستنتهي إلى حرب بين الإسلاميين وبين القوى الديموقراطية. كانت الخيبة الأكبر لدى الشعب التركي عندما فشل «حزب العدالة والتنمية» في أن يحقق أي خطوة جدية في حل إحدى أكثر المشكلات المزمنة في تركيا، أي مشكلة العلويين، حيث تبين أن الحزب كان يطلق الوعود الكاذبة. وبالإمكان أن نسأل اليوم، بعد 13 عاماً من السلطة، عن السبب الذي كان يمنع من تلبية المطالب العلوية؟ أما على صعيد المسألة الكردية، الأكثر تعقيداً من المسألة العلوية، فكانت الفشل الأبرز. فبعد سنوات من الهدوء، وبعد سنتين ونصف من المفاوضات بين الدولة وزعيم «حزب العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان في سجنه، كانت النتيجة انفجار الصراع المسلح من جديد على امتداد الساحة التركية. 13 عاماً من السلطة، وسنتان ونصف السنة من المفاوضات، والنتيجة صفراً، والأكراد على ما يبدو يستسيغون أن يُلدغوا من جحرهم مرة ومثنى وثلاثاً ورباعاً، عندما قبلوا بأن يتلاعب رئيس السلطة رجب طيب أردوغان بهم لتمرير الوقت وفقاً لظروفه الخارجية أو الداخلية، وكانوا يأملون منه خيراً على أساس أنه الوحيد القادر على تلبية المطالب، أو جزء منها إذا أراد، فلم يطوروا أية استراتيجية مضادة، وكانوا يعتمدون على ردة الفعل لا المبادرة. ولعل النجاح الأكبر الذي حققه الأكراد كان للمفارقة في مجال السياسة وليس الحرب. فهم الذين كسروا أردوغان في الانتخابات النيابية الماضية، وحطّموا أحلامه في نظام رئاسي، بل حرموه من الاستمرار منفرداً بالسلطة، فبات يهيم يميناً وشمالاً باحثاً عن مخرج لمأزقه، فلم يجد سوى توتير الوضع وفتح جبهة عسكرية ضد «حزب العمال الكردستاني»، عله يكسب بعض أصوات إضافية من الفئات القومية التركية في انتخابات مبكرة، يضغط لإجرائها في الخريف المقبل. بعد سنتين ونيف من المفاوضات يمكن التساؤل عن الذي قدّمه أردوغان للأكراد، مقابل الهدوء الذي أعطاه إياه الأكراد. الجواب هو لا شيء. تماماً كما كان الجواب بالنسبة للمسألة العلوية. ومن صورة «نظيف الكفّ» أيام بلدية اسطنبول، يخوض أردوغان اليوم حرب منع المساءلة في فضائح الفساد التي في حال فتحت ستهزّ الحزب والعائلة الحاكمة. والتي ستكون امتحاناً حساساً وأخلاقياً لكل حزب يدخل في ائتلاف حكومي مع «العدالة والتنمية». إن أحد أهم أسباب عرقلة أردوغان تشكيل حكومة إئتلافية هو خوفه من فتح ملفات الفساد. ولا يحسد أحد تركيا في عهد «حزب العدالة والتنمية» على قمع الحريات وملاحقة الصحافيين، ونعتهم بالعملاء للخارج والتجسس. أما الفصل بين السلطات فبات في خبر كان، حيث باتت السلطة القضائية طوع بنان وزير العدل بعد تعديل القوانين خلافاً للمعايير الأوروبية المطالبة أنقرة بالتزامها. والقاضي الذي كان رمزاً لمحاكمة الجنرالات بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم في ما سُمّي بقضية «أرغينيكون»، أصبح مطارداً بتهم التآمر لقلب نظام الحكم. وهاهو زكريا أوز يهرب من تركيا قبل أيام إلى جورجيا ومنها إلى أرمينيا ربما، أو إلى روسيا أو إلى بلاد الله الواسعة. ذنب زكريا أوز أنه قاد التحقيقات في فضيحة الفساد التي ظهرت في نهاية العام 2013 والتي أثبتت تورط أربعة وزراء وأبنائهم وبلال ابن أردوغان وغيرهم في سرقة الأموال وتخبئتها في صناديق أحذية داخل منازلهم. تحوّل «نموذج» حزب «العدالة والتنمية» إلى موضع تندر وسخرية بعدما كان المثال الذي تطلّع إليه العالم الإسلامي. أما في السياسة الخارجية فكان الانهيار الدراماتيكي. لم تعمر نظرية «صفر مشكلات» أكثر من ست أو سبع سنوات، ولتتحول نظرية «العمق الاستراتيجي» إلى نموذج للنظريات الاستراتيجية الأسرع انهياراً في التاريخ، ويمكن لها أن تدرج في موسوعة «غينيس». باتت تركيا معزولة عن الجميع من أعداء وأصدقاء بعدما نصّب أردوغان ورئيس الحكومة أحمد داود اوغلو نفسيهما وصيين على شؤون الدول الأخرى، من سوريا إلى مصر ومن تونس إلى اليمن وصولاً إلى الإمارات بل السعودية أيضاً. سقط المشروع العثماني لـ «حزب العدالة والتنمية» بعدما انهارت ركيزته الأولى بالفشل في إسقاط الرئيس بشار الأسد وانهارت الثانية بإسقاط نظام محمد مرسي في القاهرة. وانتقل «الإسلام المعتدل» ليصبح الحاضنة لأكثر التنظيمات الإرهابية تطرفاً، مثل «داعش» و «جبهة النصرة» ومن يوصفون زوراً بالمعتدلين. ولسوف تنكشف الدفاتر الأصلية لكل هذا الدعم ولو بعد خمسين سنة. لقد بان أن سياسة «صفر مشكلات» لم تكن سوى مدخل لسياسات الهيمنة من الداخل في البداية والاحتلال من الخارج. فمن الذي يجيز لتركيا أن تموّل وتسلح الجماعات المسلحة في سوريا والعراق؟ وأي شرعية دولية تمنح تركيا الحق في أن تعلن أنها ستقيم منطقة عازلة وترسل إليها عشرة آلاف تركماني ومن «الجيش السوري الحر»؟ وأي أعراف تسمح لتركيا أن تُمعن في دعم قوى داخل سوريا مثل «داعش» على قوى أخرى، مثل الأكراد وتقول إنها ستمنع تمدّدهم إلى جرابلس واعزاز ومارع وما إلى ذلك؟ هل هذه الأرض أرضها، وهل هؤلاء مواطنون أتراك؟ لقد ضربت تركيا بعرض الحائط كل مبادئ علاقات حسن الجوار واحترام السيادة الداخلية للدول الأخرى. وكل ما يمكن أن نسأله هل تقبل أنقرة أن تبادر أي دولة إقليمية أو دولية إلى التذرع بقمع الدولة التركية للأكراد، أو باضطهاد العلويين، لتتدخل في الشؤون الداخلية لتركيا وتموّل وتسلّح الجماعات المعارضة، بل تقيم مناطق عازلة داخل تركيا وتدعو إلى رحيل أردوغان وداود اوغلو بطريقة سلمية أو عنفية، وتحدد خريطة طريق لتغيير النظام القائم؟ نسوق هذه الأسئلة لنقول إن سلوكيات مشابهة لأي دولة لا يمكن القبول بها من جهة، ولا يمكن أن تبقى بلا محاسبة ولو بعد عقود. فالتاريخ قد يُمهِل، لحسابات القدرة والقوة، لكنه لن يغفر لهؤلاء المتخفّين بزي ديني «معتدل» أنهم كانوا في أساس تدمير الكيانات السياسية لدول عديدة في المنطقة من سوريا إلى العراق فليبيا، بل حتى مصر. وكانوا في أساس تمزيق المجتمعات بالعزف على الخطابات المذهبية والعرقية. أما «حكاية» تركيا مع الاتحاد الأوروبي فكانت الأكثر تراجعاً، حيث جمود مطلق في المفاوضات منذ العام 2005 مع استبدال أردوغان، في لحظة الحلم بتزعم العالم الإسلامي، معايير كوبنهاغن بما سمّاه «معايير أنقرة»، وما أدراك ما معايير أنقرة! 14 عاماً على تأسيس «حزب العدالة والتنمية» في تركيا. 14 عاماً على تجربة مظلمة في تاريخ المنطقة والعالم الإسلامي. تجربة أسست لمعايير التفرقة والفتنة والعدوان والتسلط والشخصانية. تجربة لن تعرف نهاية قبل أن تدمّر تركيا والمنطقة كلها.

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة