يفترض الإستفهام الكلاسيكي ان نسأل المؤلِّف هل تكتب للقراء أو لنفسِك؟ غير ان الاستفهام اليوم بات يُطرح على نحو مختلف، بعدما استحال الهمّ في مكان آخر. إنتقلنا من الإستعلام عن احتمال ان يكتب الأديب للقراء أو لنفسه، إلى السؤال عن إمكان أن يكتب لصورته.

 لا لبس في أن الأدب نمط حياة، غير ان الحياة ليست نمطاً أدبيّا حكما، فكيف بالحري إذا تحوّلت إلى نسق إخراجي يتوسّل جميع الأساليب، خلا تلك المنوطة بماهية النصّ.

تُخبرنا السجلاّت الأدبية كيف شَكّلت "الوضعية الأدبية" جزءا من كينونة الكاتب لتصير مفهوما في ذاتها. والحال ان التاريخ الأدبي يقدّم أمثلة متشعبة في هذا المجال كأن نستعيد جيرار دو نرفال وهو ينزّه سرطان البحر مربوطا برسن الكلب في حدائق بالي رويال (القصر الملكي)، مستغربا استغراب الناس. أما التجربة النقدية فتجعلنا ندرك ان الإندفاع صوب تسويغ النص عبر شذرات السيرة الذاتية لا يصيب سوى نادرا.

الدافع إلى هذا الكلام خبر تقدّم جميع المنصّات الإعلامية تقريبا حول العالم وتعلّق بشاعر ستراتفورد ابون إيفون، ويليام شكسيبر، الرجل الذي حلم بجولييت وبولايات متّحدة أوروبية، قبل الأوان. يقول الخبر ان مجموعة من العلماء الجنوب إفريقيين اقتفت بقايا #حشيشة #الكيف في أنابيب غلاوين البريطاني حيث رقدت لأكثر من أربعة قرون، في فيء أشجار حديقته. شُحنت الغلاوين إلى طرف العالم، الى بريتوريا في #جنوب_أفريقيا بعدما استدعاها العِلمُ بغية إخضاعها للتدقيق والتحليل الكروماتوغرافي وقياس الطيف الكتلي، وجميع تلك التقنيات معقّدة الهوّيات كما المرامي.

فهل يبرّر لوذ قامة من نسق شكسبير بمادة مخدّرة راجت في القرن السابع عشر المستوى الرفيع من الإهتمام المهرول؟ وهل يستحق أن يتبوأ الصفحات الأدبية؟

من اللافت، وفي أعقاب اللقيّة التي أدانت #شكسبير، أن ينصرف الخبراء في منجزه إلى النبش في النص عن دليل يبرهن الحقيقة العِلميّة. والحال ان عالم الأنثروبولوجيا فرنسيس ثاكيري الذي يشغل منصب مدير "معهد الإرتقاء الإنساني" في جوهانسبرغ، أًصرّ وللمفارقة، ووفق صحيفة "ذي اندبندنت" على إيجاد دلائل على الخلاصات العلميّة في التجربة التأليفية. إرتأى على هذا النحو ان في السوناتة 76 إشارة إلى "مكوّنات غريبة" يحتمل أن تشير في عرفه، إلى "المُخدرات الغريبة" التي استهلكها شكسبير.

يتردّد ان القهوة استحالت وقود بالزاك الإبتكارية وهو احتسى منها خمسين فنجانا يومياً وكتب عنها في "بحث في المنبّهات الحديثة" حيث نقرأ "تسقط القهوة في معدَتِك (...) فيتحرك كل شيء: تنطلق الأفكار كأفواج الجيش الكبير في أرض المعركة". أما سيمون دو بوفوار فبدأت نهارها باحتساء الشاي كمثل تولستوي الذي اعتاد أن يحمل معه فنجانا منه إلى محترفه، بعد الفطور. لكن فكرة ارتباط المُنبّهات وعلى صنوفها بالقدرة التأليفية تظلّ، على رغم بعض السحر، مجرد طُرفة مثيرة للإهتمام ولا يعوّل عليها.

ثمة سقم يصيب قراءة النصوص في زمننا بات يُحرِّم عليها أن تستنبط معناها من متنها مفضلة على ذلك ان تستنبط المعنى من كل ما يجاورها، من يوميات الكاتب وأهوائه وعقائده حتى. فهل ثمة ما يبرّر الرغبة المستميتة في إيجاد خريطة طريق لمعيش الكاتب، في نصوصه؟ وهل بات من سابع المستحيلات أن نسلّم بوجود بعض المناطق الرمادية في القطع التأليفية، حيث يُترك العنان لكلام الخيال، وله وحده؟

يخترع جميع الأدباء صورة محدّدة عنهم حين يشتغلون، يشيدوها ثم يدمروها او يعترضون عليها قبل إعادة ابتكارها. لا يكون الكاتب نفسه حين يكتب، فكيف نلقيه على مشرحة ما يحتسيه وما يأكله وما يُدمنه؟

أجمل الأدب هو الذي يترك في كنفه جوانب عصيّة على التفسير، في حين يترك لنا باب التأويل مُشرعاً.

  • فريق ماسة
  • 2015-08-12
  • 12265
  • من الأرشيف

شكسبير وحشيشة الكيف

يفترض الإستفهام الكلاسيكي ان نسأل المؤلِّف هل تكتب للقراء أو لنفسِك؟ غير ان الاستفهام اليوم بات يُطرح على نحو مختلف، بعدما استحال الهمّ في مكان آخر. إنتقلنا من الإستعلام عن احتمال ان يكتب الأديب للقراء أو لنفسه، إلى السؤال عن إمكان أن يكتب لصورته.  لا لبس في أن الأدب نمط حياة، غير ان الحياة ليست نمطاً أدبيّا حكما، فكيف بالحري إذا تحوّلت إلى نسق إخراجي يتوسّل جميع الأساليب، خلا تلك المنوطة بماهية النصّ. تُخبرنا السجلاّت الأدبية كيف شَكّلت "الوضعية الأدبية" جزءا من كينونة الكاتب لتصير مفهوما في ذاتها. والحال ان التاريخ الأدبي يقدّم أمثلة متشعبة في هذا المجال كأن نستعيد جيرار دو نرفال وهو ينزّه سرطان البحر مربوطا برسن الكلب في حدائق بالي رويال (القصر الملكي)، مستغربا استغراب الناس. أما التجربة النقدية فتجعلنا ندرك ان الإندفاع صوب تسويغ النص عبر شذرات السيرة الذاتية لا يصيب سوى نادرا. الدافع إلى هذا الكلام خبر تقدّم جميع المنصّات الإعلامية تقريبا حول العالم وتعلّق بشاعر ستراتفورد ابون إيفون، ويليام شكسيبر، الرجل الذي حلم بجولييت وبولايات متّحدة أوروبية، قبل الأوان. يقول الخبر ان مجموعة من العلماء الجنوب إفريقيين اقتفت بقايا #حشيشة #الكيف في أنابيب غلاوين البريطاني حيث رقدت لأكثر من أربعة قرون، في فيء أشجار حديقته. شُحنت الغلاوين إلى طرف العالم، الى بريتوريا في #جنوب_أفريقيا بعدما استدعاها العِلمُ بغية إخضاعها للتدقيق والتحليل الكروماتوغرافي وقياس الطيف الكتلي، وجميع تلك التقنيات معقّدة الهوّيات كما المرامي. فهل يبرّر لوذ قامة من نسق شكسبير بمادة مخدّرة راجت في القرن السابع عشر المستوى الرفيع من الإهتمام المهرول؟ وهل يستحق أن يتبوأ الصفحات الأدبية؟ من اللافت، وفي أعقاب اللقيّة التي أدانت #شكسبير، أن ينصرف الخبراء في منجزه إلى النبش في النص عن دليل يبرهن الحقيقة العِلميّة. والحال ان عالم الأنثروبولوجيا فرنسيس ثاكيري الذي يشغل منصب مدير "معهد الإرتقاء الإنساني" في جوهانسبرغ، أًصرّ وللمفارقة، ووفق صحيفة "ذي اندبندنت" على إيجاد دلائل على الخلاصات العلميّة في التجربة التأليفية. إرتأى على هذا النحو ان في السوناتة 76 إشارة إلى "مكوّنات غريبة" يحتمل أن تشير في عرفه، إلى "المُخدرات الغريبة" التي استهلكها شكسبير. يتردّد ان القهوة استحالت وقود بالزاك الإبتكارية وهو احتسى منها خمسين فنجانا يومياً وكتب عنها في "بحث في المنبّهات الحديثة" حيث نقرأ "تسقط القهوة في معدَتِك (...) فيتحرك كل شيء: تنطلق الأفكار كأفواج الجيش الكبير في أرض المعركة". أما سيمون دو بوفوار فبدأت نهارها باحتساء الشاي كمثل تولستوي الذي اعتاد أن يحمل معه فنجانا منه إلى محترفه، بعد الفطور. لكن فكرة ارتباط المُنبّهات وعلى صنوفها بالقدرة التأليفية تظلّ، على رغم بعض السحر، مجرد طُرفة مثيرة للإهتمام ولا يعوّل عليها. ثمة سقم يصيب قراءة النصوص في زمننا بات يُحرِّم عليها أن تستنبط معناها من متنها مفضلة على ذلك ان تستنبط المعنى من كل ما يجاورها، من يوميات الكاتب وأهوائه وعقائده حتى. فهل ثمة ما يبرّر الرغبة المستميتة في إيجاد خريطة طريق لمعيش الكاتب، في نصوصه؟ وهل بات من سابع المستحيلات أن نسلّم بوجود بعض المناطق الرمادية في القطع التأليفية، حيث يُترك العنان لكلام الخيال، وله وحده؟ يخترع جميع الأدباء صورة محدّدة عنهم حين يشتغلون، يشيدوها ثم يدمروها او يعترضون عليها قبل إعادة ابتكارها. لا يكون الكاتب نفسه حين يكتب، فكيف نلقيه على مشرحة ما يحتسيه وما يأكله وما يُدمنه؟ أجمل الأدب هو الذي يترك في كنفه جوانب عصيّة على التفسير، في حين يترك لنا باب التأويل مُشرعاً.

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة