يختلف المراقبون في تحديد حجم ومدى المتغيرات التي ستشهدها الساحة الدولية بعد الاعتراف بالحق الإيراني بامتلاك التقنية النووية واستعمالها السلمي. خلاف قد يبدو فيه تباين إلى حد التناقض ومع ذلك فإننا نقول: إن الاتفاق الدولي حول هذا الملف أحدث زلزالا في العلاقات الدولية قد يكون من طبيعة تغييرية قل أن شهدتها الساحة العالمية منذ انتهاء الحرب الثانية.

 ومنذ أن رسمت خريطة النفوذ الكوني وتم تقاسم العالم مناطق سيطرة وإلحاق بالدول المنتصرة في تلك الحرب فهذا الاتفاق أدى إلى ولادة قطب دولي اقتحم نادي الأقوياء ولهذا نصفه بالزلزال.‏

 لكن لهذا الزلزال ضوابط كما يبدو تضع له حدودا لا يتعداها، لا بل إن هذا الزلزال في طبيعته ومفاعليه من النوع الذي يحدث التغيير في البيئة أو المسرح العام دون أن يمس بذات المكونات العاملة على هذا المسرح وللتوضيح أقول انه خلافا لما قد يظن البعض، فإن الاتفاق ليس صفقة بين إيران والغرب خاصة أميركا، من شأنها أن تتنازل إيران فيها عن هويتها مقابل سكوت الغرب عن نوويتها، أو ينتقل الغرب وعلى رأسه أميركا في نظر إيران من صورة «الشيطان الأكبر» إلى صورة «الملاك الرحمن».‏

 فالاتفاق كان سلوكاً إيرانياً استثنائياً كما وصفه السيد الخامنئي، وكان تصرفاً غربياً ضرورياً فرضه الواقع والعجز عن سلوك الطريق العسكري المباشر في مواجهة ايران كما أوحى أوباما وبالتالي لم يكن الاتفاق انتقالا من مرحلة العداء والجفاء ، إلى مرحلة التعاون والصداقة بين أطرافه ، ولن يكون الاتفاق جسرا تعبر عليه قوافل تغيير النظرة الإيرانية إلى أميركا والتراجع عن اعتبارها «دولة الاستكبار العالمي والغطرسة» التي تستحق «الموت» كما تطلق عبارة «الموت لأميركا»، كما انه لن يغير في القلق أو الهواجس الأميركية والغربية المختزنة في العمق بأن «ايران هي رأس محور الشر على المصالح الغربية الاستعمارية في المنطقة والعالم».‏

 فالاتفاق في العمق والحقيقة يشكل اعترافا غربيا دوليا بالنظام السياسي الذي أرسته الثورة الإسلامية في إيران، وإقراراً بالعجز عن اقتلاعه أو ترويضه أو احتوائه والتسليم بضرورة التعايش معه ومساكنته والتعامل معه بشكل براغماتي وفقا لما هو عليه وليس وفقا لما تريده أميركا والغرب أي التعامل معه باعتباره نظاماً سياسياً واقعياً قانونياً مشروعاً ذا هوية محددة وقيم ومبادئ ثابتة معلنة.‏

 تعامل ينتقل إلى مرحلة جديدة تختلف عما سبقها، فبعد أن كان الهدف الغربي من المواجهة إسقاط النظام الإسلامي الإيراني واجتثاثه سيتحول السلوك بعد هذا الاتفاق إلى صراع حول الفضاء الاستراتيجي الحيوي الذي يمكن أن تصل اليه إيران في المنطقة والعالم وبشكل خاص حول الأحلاف والمحاور التي قد تشكلها إيران أو تنضم إليها مع المحافظة على هويتها المستقلة وثوابتها المعلنة. وبهذا يجب أن تفهم مواقف مرشد الثورة السيد علي خامنئي في خطبة عيد الفطر الأخيرة، وتأكيده القاطع على تلك الثوابت ورفضه لأي تنازل أو تجميد للعمل بأي منها بما في ذلك النظرة لأميركا واعتباره أن التفاوض معها جاء استثناء وان المواجهة مستمرة استمرار الصراع بين الحق والباطل. وعليه لا ينتظرن أحد برأينا أن تعقد موائد التفاوض بين الطرفين لاستيلاد حلول سريعة لأزمات المنطقة.‏

 قد يمس هذا القول والتشخيص بموجة التفاؤل التي سادت في المنطقة بعد الاتفاق النووي الإيراني، وقد يرى البعض فيها نزعة تشاؤمية، ولكننا نسارع للقول بأن الإفراط بالتفاؤل قد يشكل خطرا على صاحبه ويكون ضرره أكثر من المحتمل، ونحن نميز بين تغيير في البيئة يفرض إيقاعا مناسبا للمواجهة والصراع، وبين تغيير في ذاتية المكون يضع حدا للمواجهة وينهي الصراع. والذي نحن بصدده مع هذا الاتفاق هو التغيير البيئي المؤثر في الإيقاع، وليس التغيير التكويني المسقط للصراع.‏

 وعلى ضوء ذلك نرى أن التغيير في الإيقاع سيكون لمصلحة محور المقاومة وسينعكس إيجابا على مناطق مواجهة تعتبر إيران نفسها معنية بها من العراق إلى سورية فاليمن فضلا عن البحرين ولبنان، حيث سيكون لإيران قدرة أكبر على تقديم الدعم والمساندة لحلفائها في الميدان هناك، في حين سينقسم المعتدون إلى فئتين:‏

 - فئة الواقعيين البراغماتيين وعلى رأسهم أميركا التي ستتعامل مع الواقع كما اعترفت به وتحاول بنفس مصلحي وضع حد للتصعيد ومحاولة البحث عن حلول سياسية لأزمات المنطقة بشكل يحدد خسائرها ويرفع سقف مصالحها المتبقية.‏

 - وفئة المكابرين الحمقى الرافضين للاتفاق ونتائجه وهم سيجنحون إلى تصعيد الصراع الانتحاري لقطع الطريق على إيران لمنعها من قطف ثمار الاتفاق.‏

 و يبدو أن السعودية ستشكل طليعة الفئة الثانية لأنها ترى أن المكاسب الإيرانية ستكون على حسابها عقائدياً وسياسياً. لذا سارعت إلى التحرك التصعيدي قبل أن تنتظر تصديق مجلس الأمن على الاتفاق الدولي، وهذا ما يفسر محاولتها الانتحارية لاستعادة عدن واستدعاء خالد مشعل مسؤول حركة حماس الفلسطينية ثم رئيس مليشيا القوات اللبنانية، من أجل استئجار خدماتهما في اليمن ولبنان لإقامة التوزان مع أنصار الله وحزب الله، فطلب من الأول إرسال المقاتلين من حماس إلى اليمن ، ولوح جعجع بالتصعيد بما يراد منه إرباك حزب الله بعد العودة إلى نغمة عدم مشروعية المقاومة .‏

 إذاً ستكون مسارات ما بعد الاتفاق متشعبة في فرعين، فرع يسير فيه الواقعيون البراغماتيون، يبتغى منه تلمس الحلول الممكنة ويرى أن اللجوء إلى القوة استنفد أهدافه ولن يكون له دور يتعدى الضغط والاستنزاف وإفراغ الذخيرة من السلاح، وفرع يقتحمه المكابرون الانتحاريون الذين يرفضون التسليم بالهزيمة أمام نجاح إيران ومحور المقاومة. ما يعني أن الأمور قد تكون مرشحة في مكان ما للتصعيد كما تريد السعودية خاصة في اليمن ولبنان. فإن حصل ذلك فإننا نتوقع غرقاً سعودياً في رمال تفوق القدرة السعودية على المواجهة غرقاً يفسح المجال عندها أمام الحلول المنشودة.‏

 وبالتالي فإننا نرى انه مهما كان سلوك الخصوم فإن الاتفاق النووي فتح باب التغيير لمصلحة محور المقاومة، الممتلك لقوة في الميدان وفي الأروقة السياسية، قوة تمكنه من الحسم الميداني حيث يقتضي، وفرض المواقف السياسية حيث يلزم، ما يعني أن الاتفاق هيأ بيئة إنتاج الحلول لكن الطريق إليها ما زال طويلاً.‏

  • فريق ماسة
  • 2015-07-20
  • 10281
  • من الأرشيف

ما بعد الاتفاق النووي.. حلول أم تصعيد؟ ....بقلم: العميد د. أمين محمد حطيط

يختلف المراقبون في تحديد حجم ومدى المتغيرات التي ستشهدها الساحة الدولية بعد الاعتراف بالحق الإيراني بامتلاك التقنية النووية واستعمالها السلمي. خلاف قد يبدو فيه تباين إلى حد التناقض ومع ذلك فإننا نقول: إن الاتفاق الدولي حول هذا الملف أحدث زلزالا في العلاقات الدولية قد يكون من طبيعة تغييرية قل أن شهدتها الساحة العالمية منذ انتهاء الحرب الثانية.  ومنذ أن رسمت خريطة النفوذ الكوني وتم تقاسم العالم مناطق سيطرة وإلحاق بالدول المنتصرة في تلك الحرب فهذا الاتفاق أدى إلى ولادة قطب دولي اقتحم نادي الأقوياء ولهذا نصفه بالزلزال.‏  لكن لهذا الزلزال ضوابط كما يبدو تضع له حدودا لا يتعداها، لا بل إن هذا الزلزال في طبيعته ومفاعليه من النوع الذي يحدث التغيير في البيئة أو المسرح العام دون أن يمس بذات المكونات العاملة على هذا المسرح وللتوضيح أقول انه خلافا لما قد يظن البعض، فإن الاتفاق ليس صفقة بين إيران والغرب خاصة أميركا، من شأنها أن تتنازل إيران فيها عن هويتها مقابل سكوت الغرب عن نوويتها، أو ينتقل الغرب وعلى رأسه أميركا في نظر إيران من صورة «الشيطان الأكبر» إلى صورة «الملاك الرحمن».‏  فالاتفاق كان سلوكاً إيرانياً استثنائياً كما وصفه السيد الخامنئي، وكان تصرفاً غربياً ضرورياً فرضه الواقع والعجز عن سلوك الطريق العسكري المباشر في مواجهة ايران كما أوحى أوباما وبالتالي لم يكن الاتفاق انتقالا من مرحلة العداء والجفاء ، إلى مرحلة التعاون والصداقة بين أطرافه ، ولن يكون الاتفاق جسرا تعبر عليه قوافل تغيير النظرة الإيرانية إلى أميركا والتراجع عن اعتبارها «دولة الاستكبار العالمي والغطرسة» التي تستحق «الموت» كما تطلق عبارة «الموت لأميركا»، كما انه لن يغير في القلق أو الهواجس الأميركية والغربية المختزنة في العمق بأن «ايران هي رأس محور الشر على المصالح الغربية الاستعمارية في المنطقة والعالم».‏  فالاتفاق في العمق والحقيقة يشكل اعترافا غربيا دوليا بالنظام السياسي الذي أرسته الثورة الإسلامية في إيران، وإقراراً بالعجز عن اقتلاعه أو ترويضه أو احتوائه والتسليم بضرورة التعايش معه ومساكنته والتعامل معه بشكل براغماتي وفقا لما هو عليه وليس وفقا لما تريده أميركا والغرب أي التعامل معه باعتباره نظاماً سياسياً واقعياً قانونياً مشروعاً ذا هوية محددة وقيم ومبادئ ثابتة معلنة.‏  تعامل ينتقل إلى مرحلة جديدة تختلف عما سبقها، فبعد أن كان الهدف الغربي من المواجهة إسقاط النظام الإسلامي الإيراني واجتثاثه سيتحول السلوك بعد هذا الاتفاق إلى صراع حول الفضاء الاستراتيجي الحيوي الذي يمكن أن تصل اليه إيران في المنطقة والعالم وبشكل خاص حول الأحلاف والمحاور التي قد تشكلها إيران أو تنضم إليها مع المحافظة على هويتها المستقلة وثوابتها المعلنة. وبهذا يجب أن تفهم مواقف مرشد الثورة السيد علي خامنئي في خطبة عيد الفطر الأخيرة، وتأكيده القاطع على تلك الثوابت ورفضه لأي تنازل أو تجميد للعمل بأي منها بما في ذلك النظرة لأميركا واعتباره أن التفاوض معها جاء استثناء وان المواجهة مستمرة استمرار الصراع بين الحق والباطل. وعليه لا ينتظرن أحد برأينا أن تعقد موائد التفاوض بين الطرفين لاستيلاد حلول سريعة لأزمات المنطقة.‏  قد يمس هذا القول والتشخيص بموجة التفاؤل التي سادت في المنطقة بعد الاتفاق النووي الإيراني، وقد يرى البعض فيها نزعة تشاؤمية، ولكننا نسارع للقول بأن الإفراط بالتفاؤل قد يشكل خطرا على صاحبه ويكون ضرره أكثر من المحتمل، ونحن نميز بين تغيير في البيئة يفرض إيقاعا مناسبا للمواجهة والصراع، وبين تغيير في ذاتية المكون يضع حدا للمواجهة وينهي الصراع. والذي نحن بصدده مع هذا الاتفاق هو التغيير البيئي المؤثر في الإيقاع، وليس التغيير التكويني المسقط للصراع.‏  وعلى ضوء ذلك نرى أن التغيير في الإيقاع سيكون لمصلحة محور المقاومة وسينعكس إيجابا على مناطق مواجهة تعتبر إيران نفسها معنية بها من العراق إلى سورية فاليمن فضلا عن البحرين ولبنان، حيث سيكون لإيران قدرة أكبر على تقديم الدعم والمساندة لحلفائها في الميدان هناك، في حين سينقسم المعتدون إلى فئتين:‏  - فئة الواقعيين البراغماتيين وعلى رأسهم أميركا التي ستتعامل مع الواقع كما اعترفت به وتحاول بنفس مصلحي وضع حد للتصعيد ومحاولة البحث عن حلول سياسية لأزمات المنطقة بشكل يحدد خسائرها ويرفع سقف مصالحها المتبقية.‏  - وفئة المكابرين الحمقى الرافضين للاتفاق ونتائجه وهم سيجنحون إلى تصعيد الصراع الانتحاري لقطع الطريق على إيران لمنعها من قطف ثمار الاتفاق.‏  و يبدو أن السعودية ستشكل طليعة الفئة الثانية لأنها ترى أن المكاسب الإيرانية ستكون على حسابها عقائدياً وسياسياً. لذا سارعت إلى التحرك التصعيدي قبل أن تنتظر تصديق مجلس الأمن على الاتفاق الدولي، وهذا ما يفسر محاولتها الانتحارية لاستعادة عدن واستدعاء خالد مشعل مسؤول حركة حماس الفلسطينية ثم رئيس مليشيا القوات اللبنانية، من أجل استئجار خدماتهما في اليمن ولبنان لإقامة التوزان مع أنصار الله وحزب الله، فطلب من الأول إرسال المقاتلين من حماس إلى اليمن ، ولوح جعجع بالتصعيد بما يراد منه إرباك حزب الله بعد العودة إلى نغمة عدم مشروعية المقاومة .‏  إذاً ستكون مسارات ما بعد الاتفاق متشعبة في فرعين، فرع يسير فيه الواقعيون البراغماتيون، يبتغى منه تلمس الحلول الممكنة ويرى أن اللجوء إلى القوة استنفد أهدافه ولن يكون له دور يتعدى الضغط والاستنزاف وإفراغ الذخيرة من السلاح، وفرع يقتحمه المكابرون الانتحاريون الذين يرفضون التسليم بالهزيمة أمام نجاح إيران ومحور المقاومة. ما يعني أن الأمور قد تكون مرشحة في مكان ما للتصعيد كما تريد السعودية خاصة في اليمن ولبنان. فإن حصل ذلك فإننا نتوقع غرقاً سعودياً في رمال تفوق القدرة السعودية على المواجهة غرقاً يفسح المجال عندها أمام الحلول المنشودة.‏  وبالتالي فإننا نرى انه مهما كان سلوك الخصوم فإن الاتفاق النووي فتح باب التغيير لمصلحة محور المقاومة، الممتلك لقوة في الميدان وفي الأروقة السياسية، قوة تمكنه من الحسم الميداني حيث يقتضي، وفرض المواقف السياسية حيث يلزم، ما يعني أن الاتفاق هيأ بيئة إنتاج الحلول لكن الطريق إليها ما زال طويلاً.‏

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة