دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
فتحت "حارة الضبع" أبوابها للمرّة السابعة لاستقبال المشاهدين، ويبدو أنّ التجوّل في أزقّتها لم يعد مشوّقاً أو مقنعاً، حتى ولو بقيت نسبة المشاهدة مرتفعة في أيام رمضان الأولى. سبع سنوات مضت من دون أن يمارس الزمن سلطته على المسلسل السوري الأشهر "باب الحارة" (يعرض على "أم بي سي" و"أل بي سي اي") الذي يجسّد حقبة بداية القرن العشرين المليئة بالثورات والتغيّرات التي عصفت بسوريا في ظلّ الانتداب الفرنسي حينها. المضمون ما زال نفسه. يستعرض بطولات رجال الحارة الذين يدافعون عنها وعن نسائهم بكلّ ما أوتوا من قوّة وشجاعة ورباطة جأش وكرامة. فلا تسمع سوى صدى أصواتهم تعلو في أرجاء الحارة يصرخون بعضهم على بعض. وكلّما ارتفعت نبرة صوتهم زادت رجوليتهم التي تتمظهر كذلك عبر طول وحجم الشاربين. لنقارن شارب أبو ظافر (يؤدي دوره أيمن زيدان) وشارب أبو بدر (محمد خير الجرّاح) مثلاً. يطمح الأوّل إلى الهيمنة والسيطرة على الحارة، فنسمع صوته يخترق شاربه الكثيف مزمجراً في كل مكان، موزعاً الأوامر على نساء منزله وأبناء الحارة، وكأنّه قائدها أو الأسد، فيما يدلّ شارب أبو بدر بصغره على ضعفه وجبنه. لفظه لمخارج الحروف خاطئ وتأتأته للكلام تجعل منه الشخصية الأضعف، فلا يكنّ أحد له الاحترام ولا التقدير، بعكس "القبضايات" الذين يحلف الجميع بشواربهم. عموماً، مكان رجال "حارة الضبع" ليس في المنزل بخلاف نسائه. نعم، بعد سبع سنين من بدء المسلسل، عرفت تاريخياً تحرّكات نسائية مهمّة وكبيرة، لم نرَ أيّ امرأة تسير حرّة طليقة في أرجاء الحارة. فقد نشأت الحركة النسوية السورية التي ضمّت حينها عدداً ضئيلاً من النساء، في ظلّ الانتداب الفرنسي وذلك ما بين عامي 1920 و1946، بحيث شكّلت درعاً سياسية مستقلة، ساهمت من خلاله في إعادة تعريف الثقافة السياسية السورية بعد المطالبة بالتغيير والإصلاح. وفي النتيجة، كانت المرأة الرائدة في هذا المجال، خصوصاً بعدما أخذت مطالبها في الاعتبار وأصبحت تالياً عصب المعترك السياسي من حيث المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة.
أدّت الثورة ضدّ الاستعمار الفرنسي تاريخياً، إلى تنظيم الحركة النسائية في سوريا، مع نساء عدة نذكر منهن على سبيل المثال لا الحصر سارة المؤيد العظم، زوجة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، أحد قادات الثورة السورية. وهي كانت تنظّم اجتماعات لنساء المسجونين والمنفيين تعمد من خلالها إلى تنظيم مسيرات نسائية، وتدعو الرجال إلى المشاركة بها والتظاهر إلى جانبهنّ، مرغمة الأسواق على الإقفال إيذاناً ببدء هذه المسيرات... كل ذلك كان يحدث فيما تلزم نساء "باب الحارة" منازلهنّ. فما زلن حتى بعد مرور سبع سنين أسيرات بيوت الشام الجميلة. ترى نساء الحارة كأزهار الياسمين لا ينبتن إلاّ في المنزل، بعيداً من الأنظار، خجلاً أو ربّما خوفاً ورهبة من العالم الخارجي، ومن ذلك الرجل الذي يحمي ويؤنّب في الآن نفسه. كلّما اقتربت من شبابيك وأبواب منازل "حارة الضبع"، تسمع الأصوات التي ترحّب بالزوج والابن "أهلاً ابن عمّي" أو "تقبر قلبي شو رجّال". تصغي لهمسات النساء العابقات بالياسمين والأنين والبكاء بعدما يعنّفها الزوج - الحبيب، كبشير الذي أراد أن يلقّن عروسته درساً لأنّ اسوارتها سرقت واضطرت الدفاع عن نفسها أمام حماتها. فلا تكتمل بطولة رجال الحارة إلاّ بتعنيف زوجاتهن وأخواتهنّ أو توجيههن. نرى أبو ظافر، مثلاً، ينصح كنّته بالنوم باكراً لأنه سيكون بانتظارها في اليوم التالي كمّاً هائلاً من الأعمال المنزلية. هي من تجسّد مع حماتها أيضاً خلافات الكنّة والحماة بامتياز! وواقع، هذه الزوجة، كمثل واقع نساء أخريات كتب عليهنّ ملازمة المنزل لإتمام واجباتهنّ الزوجية والمنزلية كالتدليك والتنظيف، والطبخ والغسيل والكوي والنفخ... نستذكر المشهد الأوّل من الموسم السابع حيث تظهر من خلاله "حريم" أبو عصام منهمكات في تنظيف الملابس وترتيب المنزل، فيا لها من افتتاحيّة واعدة! وطبعاً لا تكتمل رجولة "قبضايات" الحارة إلاّ مع تعدد الزوجات كالبطل أبو عصام وابنه عصام.
كل ذلك طبيعي وسط حراك امتدّ لسنوات طويلة حتى بدأ يغيّر ولو قليلاً جزءاً من المعادلة. ولكن، سبع مواسم مرّت من دون أن تشذّ امرأة واحدة أقله من نساء "حارة الضبع" عن القاعدة. في حين كانت عادلة بيهم، إحدى النساء الثلاثين اللواتي يلتقين لتدوين نصّ الاعتصامات الموجه للمجتمع والأمم، تكتب التاريخ مع شريكاتها المناضلات. في الحقيقة، لم نرَ نساء الحارة منتفضات إلاّ في ما ندر، حين اجتمعن مثلاً بعضهنّ ببعض وسط الحارة للدفاع عنها في ظلّ غياب رجالها. سبع سنين مرّت ونحن نشاهدهنّ منهمكات في تحضير "الطبخة" وفي الاهتمام "بتاج رؤوسهنّ" بينما ابتكرت بيهم، أماكن لتعليم النساء المشرّدات جرّاء الحرب والأرامل الأشغالَ اليدوية. وبيهم هي التي أسست أيضاً جمعية "يقظة المرأة الشامية" عام 1927 (تهدف إلى تعليم الفتيات بعض المهارات) مع نازك عبيد، المرأة التي قادت بكلّ شجاعة مجموعة من الممرّضات في الجيش في معركة ميسلون أثناء التصدي للجيش الفرنسي في 24 تموز 1920. سبع سنين مضت ولم تتجرّأ امرأة من نساء "حارة الضبع" على الثورة ومواجهة زوجها باستثناء فوزية زوجة أبو بدر التي تتحكّم به كالدمية، في حين كانت المناضلة ثريا حافظ تحارب عبر الاتحادات النسائية لحقوق هؤلاء النسوة.
ببساطة، الموسم السابع من "باب الحارة" يسير عكس الزمن. النساء في صراع لنيل حقوقهن والمجتمع في تطوّر، ربّما ببطئ، ورجال الحارة لا يزالون يتباهون بشواربهم! فهل من "قبضاية" تخلع باب الحارة بقدمها وتواجه "أبو العز" بكلّ إقدام وشجاعة؟ أليس من امرأة عاملة من بين تلك النساء الخاضعات والمستسلمات؟ ألا يحتاج المسلسل إلى ثورة تقترب ولو قليلاً من حركات التحرّر التي عاشتها المرأة أيّام الانتداب الفرنسي؟ على الأرجح لن نشهد ذلك قبل الموسم 26 من مسلسل لا نعرف متى سينتهي!
المصدر :
الماسة السورية
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة