نتيجة غياب القنوات الاستثمارية المطمئنة والاعتقاد الديني بحرمة التعامل مع المصارف التقليدية، فضّل كثير من السوريين لعقود طويلة الاحتفاظ بمدخراتهم المالية في المنازل، لكن مع اشتداد الضغوط المعيشية المرافقة للأزمة، اضطر هؤلاء إلى «مد يدهم» إلى «خميرة» العمر لمواجهة متطلبات الحياة الصعبة

وجاء اليوم الأسود الذي كان السوريون يدخرون «قرشهم الأبيض» له. أربع سنوات من الحرب والنزوح والغلاء وفقدان الممتلكات وضياع مصادر «الرزق» كانت كافية لتجعل كثيراً من أصحاب الثروات والدخول المرتفعة على «الحديدة»، وتحيل شرائح واسعة من أصحاب الدخل المحدود والمتوسط إلى دائرة الفقر بتصنيفاته الثلاثة (المدقع، الشديد، الإجمالي)، فالمدخرات المالية التي اشتهر السوريون بإخفائها في منازلهم لأسباب عديدة أرغمتها الأزمة على الخروج من مخبئها تحت «البلاطة»، ودخولها دائرة التداول في الأسواق المحلية...

 لكن ما نسبتها من الحجم الإجمالي لمدخرات تحت «البلاطة»؟ وهل إنفاقها كان فقط لسد الفجوة الهائلة التي تشكلت بين احتياجات العائلة وبين دخلها الشهري؟ وما التأثيرات التي يمكن لهذه المدخرات أن تحدثها فيما لو طرحت كاملة في التداول؟

ليست هناك أي بيانات إحصائية أو دراسات رسمية حديثة تتناول ظاهرة المدخرات المالية الموجودة في منازل السوريين وحجمها ومصيرها خلال سنوات الأزمة، ففي ظل غياب الإحصائيات النقدية التي توقف المصرف المركزي عن تحديثها منذ عام 2011، فإن مهمة تقدير حجم تلك الأموال تصبح صعبة حتى على الاقتصاديين والماليين، فالأمر بحسب المدير العام السابق للمصرف التجاري السوري، الدكتور دريد درغام، «شبه مستحيل في ظل غياب الأرقام النقدية عن مختلف الكتل، وتالياً فالتقدير سيكون مجازفة كبرى، وخاصة أن جزءاً لا بأس به من التقديرات أو الصفقات يجري دولارياً». وهو رأي يلتقي حوله كثير من الاقتصاديين الذين استطلعت «الأخبار» رأيهم بهذه المسألة، فالدكتور شفيق عربش، أستاذ علم الإحصاء في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، يعتقد بعدم وجود أي دراسات حول مدخرات السوريين المالية، لكنه يجزم بأن هذه المدخرات «إن بقي منها شيء بعد أربع سنوات من الأزمة، فهو في الحدود الدنيا».

ومع تأكيده المسبق أيضاً صعوبة تقديم مثل هذه التقديرات في ظل غياب أي بيانات رسمية، إلا أن الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري، الذي تسلم عدة مناصب اقتصادية تنفيذية واكاديمية، يؤكد لـ «الأخبار» أنه يُقدر، وبشكل شخصي تماماً، حجم مدخرات السوريين عام 2011 بما يراوح ما بين 150 إلى 200 مليار ليرة.

بالعودة إلى سنوات ما قبل الأزمة، فإن الرقم الإحصائي الوحيد المتاح هو الذي أعلنه وزير المالية السابق محمد الحسين أثناء التحضير لتأسيس بورصة دمشق، إذ قدر آنذاك حجم المدخرات الموجودة في المنازل بما يزيد على 150 مليار ليرة، لكن الإقبال الهائل للاكتتاب على أسهم البنوك وشركات التأمين الخاصة الذي فاق قيمة الأسهم المطروحة، جعل الكثيرين يعتقدون أن الرقم أكبر من ذلك، فالبنوك وشركات التأمين مثلاً استقطبت وحدها نحو 38.5 مليار ليرة من مدخرات الأشخاص الطبيعيين.

 «الخميرة»... خلصت!

مهما كان الحجم الحقيقي لمدخرات تحت «البلاطة»، فهو دون شك كان كبيرا مع بداية الأزمة، ولا يقل في أسوأ الاحتمالات عن الرقم المعلن من قبل وزير المالية في حكومة ناجي عطري، إلا أن ما حملته الأزمة خلال ما يقرب من 1500 يوم من متغيرات اقتصادية واجتماعية تسبب بتراجع حاد في كتلة هذه المدخرات، وبحسب التقدير الشخصي للدكتور الكفري فإن «الأزمة استنزفت ما بين 50 -100 مليار ليرة».

وإلى جانب استخدام السوريين للجزء الأكبر من مدخراتهم في تأمين احتياجاتهم الرئيسية بعد موجة الغلاء الهائلة، فإن انخفاض سعر صرف الليرة إلى مستويات مخيفة دفع بالكثيرين إلى استبدال مدخراتهم بكميات من الدولار أو شراء الذهب، والقليل فقط توجه لشراء عقارات وأصول عينية بغية المحافظة على القيمة الشرائية لمدخراتهم.

يفصّل الدكتور عربش أكثر في مصير مدخرات المنازل، فيشير إلى أن «هناك عائلات كثيرة غادرت البلاد مع مدخراتها الدسمة» سواء بقصد الهجرة أو الإقامة، مذكراً هنا بالمعلومات المتداولة عن حجم الأموال السورية التي جرى تهريبها من البلاد في الفترة الماضية. ونحو مزيد من التوضيح فإن التقديرات غير الرسمية تشير إلى أنه بنهاية عام 2014 هاجر من سوريا نحو 1.5 مليون شخص أي ما يقرب من 300 ألف عائلة، ولو افترضنا أن كل عائلة أخرجت معها فقط 100 ألف ليرة، فهذا يعني أنه على أقل تقدير هناك 30 مليار ليرة من مدخرات السوريين وممتلكاتهم غادرت البلاد.

كما أن مراجعة «بيانات استهلاك السوريين من مواد رئيسية كالمازوت والغاز وفواتير الكهرباء وحجم البضائع الاستهلاكية المباعة في الأسواق يؤشر إلى حجم ما استنزفته الأسر من مدخراتها» في ضوء عدم كفاية دخولها الشهرية، الأمر الذي يعني في النهاية أن كتلة المدخرات «أصبحت معدومة» وفقاً لتقديرات الدكتور عربش.

ووفق المسح الأخير لدخل ونفقات الأسرة الذي أجراه المكتب المركزي للإحصاء قبل الأزمة، فإن المدخرات كانت تسهم بنسبة 2.6% من إجمالي مصادر الدخل للأسر السورية والبالغ عددها نحو 34 مصدراً، فيما كان الأجر الأساسي أو الراتب الكلي يمثل نحو 51.17%، وحتى التحويلات والهدايا النقدية الواردة من أفراد أو أسر خارج سوريا لم تكن تشكل أكثر من 3%، لكن مع فقدان ما يصل إلى 2.9 مليون فرصة عمل بنهاية عام 2014 والضغوط المعيشية الهائلة، التي باتت تتحملها الأسر السورية ولا سيما تلك التي نزحت عن منازلها، يدفع إلى القول إن مساهمة المدخرات المالية والتحويلات النقدية الخارجية وبيع الممتلكات في دخل الأسر ارتفعت بصورة طغت على غيرها من مصادر الدخل، التي تراجعت بنسب كبيرة بدءاً من الراتب الأساسي إلى المعاشات التقاعدية فسحب القروض وغيرها.

وإذا كانت «خميرة» السوريين قد أنقذت آلاف العائلات السورية لفترة ما وساعدتها على مواجهة متطلبات الحياة، فإن طرحها في الأسواق زاد من المعروض النقدي لليرة السورية وهذا أسهم في الضغط على سعر صرفها، ولا سيما عندما كان هذا الطرح يترافق مع الطلب على الدولار بغية الاستبدال للادخار أو المضاربة أو تغطية تكاليف السفر والهجرة. والتخوف الذي يبديه البعض هو أن يزداد هذا الطرح تماماً كما حصل في فرنسا عندما جرى اعتماد عملة اليورو والبدء باستبدال الفرنك باليورو، إذ خرجت من منازل الفرنسيين مليارات الفرنكات وهو ما تسبب بانخفاض سعر صرف الفرنك قبل أن تتحرك السلطات النقدية الفرنسية إلى معالجة ذلك، وإعادة سعر صرف الفرنك لمستواه السابق.

  • فريق ماسة
  • 2015-06-05
  • 10535
  • من الأرشيف

السوريون يمدون يدهم لمدخرات «تحت البلاطة»: الحرب جعلتنا على «الحديدة»..

نتيجة غياب القنوات الاستثمارية المطمئنة والاعتقاد الديني بحرمة التعامل مع المصارف التقليدية، فضّل كثير من السوريين لعقود طويلة الاحتفاظ بمدخراتهم المالية في المنازل، لكن مع اشتداد الضغوط المعيشية المرافقة للأزمة، اضطر هؤلاء إلى «مد يدهم» إلى «خميرة» العمر لمواجهة متطلبات الحياة الصعبة وجاء اليوم الأسود الذي كان السوريون يدخرون «قرشهم الأبيض» له. أربع سنوات من الحرب والنزوح والغلاء وفقدان الممتلكات وضياع مصادر «الرزق» كانت كافية لتجعل كثيراً من أصحاب الثروات والدخول المرتفعة على «الحديدة»، وتحيل شرائح واسعة من أصحاب الدخل المحدود والمتوسط إلى دائرة الفقر بتصنيفاته الثلاثة (المدقع، الشديد، الإجمالي)، فالمدخرات المالية التي اشتهر السوريون بإخفائها في منازلهم لأسباب عديدة أرغمتها الأزمة على الخروج من مخبئها تحت «البلاطة»، ودخولها دائرة التداول في الأسواق المحلية...  لكن ما نسبتها من الحجم الإجمالي لمدخرات تحت «البلاطة»؟ وهل إنفاقها كان فقط لسد الفجوة الهائلة التي تشكلت بين احتياجات العائلة وبين دخلها الشهري؟ وما التأثيرات التي يمكن لهذه المدخرات أن تحدثها فيما لو طرحت كاملة في التداول؟ ليست هناك أي بيانات إحصائية أو دراسات رسمية حديثة تتناول ظاهرة المدخرات المالية الموجودة في منازل السوريين وحجمها ومصيرها خلال سنوات الأزمة، ففي ظل غياب الإحصائيات النقدية التي توقف المصرف المركزي عن تحديثها منذ عام 2011، فإن مهمة تقدير حجم تلك الأموال تصبح صعبة حتى على الاقتصاديين والماليين، فالأمر بحسب المدير العام السابق للمصرف التجاري السوري، الدكتور دريد درغام، «شبه مستحيل في ظل غياب الأرقام النقدية عن مختلف الكتل، وتالياً فالتقدير سيكون مجازفة كبرى، وخاصة أن جزءاً لا بأس به من التقديرات أو الصفقات يجري دولارياً». وهو رأي يلتقي حوله كثير من الاقتصاديين الذين استطلعت «الأخبار» رأيهم بهذه المسألة، فالدكتور شفيق عربش، أستاذ علم الإحصاء في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، يعتقد بعدم وجود أي دراسات حول مدخرات السوريين المالية، لكنه يجزم بأن هذه المدخرات «إن بقي منها شيء بعد أربع سنوات من الأزمة، فهو في الحدود الدنيا». ومع تأكيده المسبق أيضاً صعوبة تقديم مثل هذه التقديرات في ظل غياب أي بيانات رسمية، إلا أن الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري، الذي تسلم عدة مناصب اقتصادية تنفيذية واكاديمية، يؤكد لـ «الأخبار» أنه يُقدر، وبشكل شخصي تماماً، حجم مدخرات السوريين عام 2011 بما يراوح ما بين 150 إلى 200 مليار ليرة. بالعودة إلى سنوات ما قبل الأزمة، فإن الرقم الإحصائي الوحيد المتاح هو الذي أعلنه وزير المالية السابق محمد الحسين أثناء التحضير لتأسيس بورصة دمشق، إذ قدر آنذاك حجم المدخرات الموجودة في المنازل بما يزيد على 150 مليار ليرة، لكن الإقبال الهائل للاكتتاب على أسهم البنوك وشركات التأمين الخاصة الذي فاق قيمة الأسهم المطروحة، جعل الكثيرين يعتقدون أن الرقم أكبر من ذلك، فالبنوك وشركات التأمين مثلاً استقطبت وحدها نحو 38.5 مليار ليرة من مدخرات الأشخاص الطبيعيين.  «الخميرة»... خلصت! مهما كان الحجم الحقيقي لمدخرات تحت «البلاطة»، فهو دون شك كان كبيرا مع بداية الأزمة، ولا يقل في أسوأ الاحتمالات عن الرقم المعلن من قبل وزير المالية في حكومة ناجي عطري، إلا أن ما حملته الأزمة خلال ما يقرب من 1500 يوم من متغيرات اقتصادية واجتماعية تسبب بتراجع حاد في كتلة هذه المدخرات، وبحسب التقدير الشخصي للدكتور الكفري فإن «الأزمة استنزفت ما بين 50 -100 مليار ليرة». وإلى جانب استخدام السوريين للجزء الأكبر من مدخراتهم في تأمين احتياجاتهم الرئيسية بعد موجة الغلاء الهائلة، فإن انخفاض سعر صرف الليرة إلى مستويات مخيفة دفع بالكثيرين إلى استبدال مدخراتهم بكميات من الدولار أو شراء الذهب، والقليل فقط توجه لشراء عقارات وأصول عينية بغية المحافظة على القيمة الشرائية لمدخراتهم. يفصّل الدكتور عربش أكثر في مصير مدخرات المنازل، فيشير إلى أن «هناك عائلات كثيرة غادرت البلاد مع مدخراتها الدسمة» سواء بقصد الهجرة أو الإقامة، مذكراً هنا بالمعلومات المتداولة عن حجم الأموال السورية التي جرى تهريبها من البلاد في الفترة الماضية. ونحو مزيد من التوضيح فإن التقديرات غير الرسمية تشير إلى أنه بنهاية عام 2014 هاجر من سوريا نحو 1.5 مليون شخص أي ما يقرب من 300 ألف عائلة، ولو افترضنا أن كل عائلة أخرجت معها فقط 100 ألف ليرة، فهذا يعني أنه على أقل تقدير هناك 30 مليار ليرة من مدخرات السوريين وممتلكاتهم غادرت البلاد. كما أن مراجعة «بيانات استهلاك السوريين من مواد رئيسية كالمازوت والغاز وفواتير الكهرباء وحجم البضائع الاستهلاكية المباعة في الأسواق يؤشر إلى حجم ما استنزفته الأسر من مدخراتها» في ضوء عدم كفاية دخولها الشهرية، الأمر الذي يعني في النهاية أن كتلة المدخرات «أصبحت معدومة» وفقاً لتقديرات الدكتور عربش. ووفق المسح الأخير لدخل ونفقات الأسرة الذي أجراه المكتب المركزي للإحصاء قبل الأزمة، فإن المدخرات كانت تسهم بنسبة 2.6% من إجمالي مصادر الدخل للأسر السورية والبالغ عددها نحو 34 مصدراً، فيما كان الأجر الأساسي أو الراتب الكلي يمثل نحو 51.17%، وحتى التحويلات والهدايا النقدية الواردة من أفراد أو أسر خارج سوريا لم تكن تشكل أكثر من 3%، لكن مع فقدان ما يصل إلى 2.9 مليون فرصة عمل بنهاية عام 2014 والضغوط المعيشية الهائلة، التي باتت تتحملها الأسر السورية ولا سيما تلك التي نزحت عن منازلها، يدفع إلى القول إن مساهمة المدخرات المالية والتحويلات النقدية الخارجية وبيع الممتلكات في دخل الأسر ارتفعت بصورة طغت على غيرها من مصادر الدخل، التي تراجعت بنسب كبيرة بدءاً من الراتب الأساسي إلى المعاشات التقاعدية فسحب القروض وغيرها. وإذا كانت «خميرة» السوريين قد أنقذت آلاف العائلات السورية لفترة ما وساعدتها على مواجهة متطلبات الحياة، فإن طرحها في الأسواق زاد من المعروض النقدي لليرة السورية وهذا أسهم في الضغط على سعر صرفها، ولا سيما عندما كان هذا الطرح يترافق مع الطلب على الدولار بغية الاستبدال للادخار أو المضاربة أو تغطية تكاليف السفر والهجرة. والتخوف الذي يبديه البعض هو أن يزداد هذا الطرح تماماً كما حصل في فرنسا عندما جرى اعتماد عملة اليورو والبدء باستبدال الفرنك باليورو، إذ خرجت من منازل الفرنسيين مليارات الفرنكات وهو ما تسبب بانخفاض سعر صرف الفرنك قبل أن تتحرك السلطات النقدية الفرنسية إلى معالجة ذلك، وإعادة سعر صرف الفرنك لمستواه السابق.

المصدر : الاخبار / زياد غصن


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة