في موقف لافت جاهرت فرنسا بالقول بان العراق وسورية يتجهان إلى التقسيم الفعلي، وكانت أميركا قبلها قد أثارت موضوع العراق طارحة التعامل المباشر مع مكونات ثلاثة فيه بتجاوز الدولة المركزية أي بعبارة أخرى العمل بالتقسيم الواقعي تمهيداً للتقسيم القانوني.

كما أن مواقف أخرى صدرت عن مسؤولين أوروبيين وآخرين في الأمم المتحدة تفضي جميعها إلى القول بتشكل قناعة أجنبية بان الحريق الذي التهم المنطقة، التهم وحدة الدول فيها وأن النيران القائمة لا يطفئها إلا تقسيم تلك الدول.‏

مع هذه المواقف التي تؤشر إلى أن الغرب الذي شن عدوانه على المنطقة مستعملاً أدوات محلية وإقليمية بات مقتنعاً بأن التقسيم هو الحل الوحيد للوضع. فهل هذا التصور صحيح؟ وما هي دلالاته؟ ولماذا وصل الغرب إلى هذا التصور؟ ثم هل بات تنفيذ المشروع ممكناً أو بحكم الحل الإجباري؟‏

في البداية لا بد من التأكيد على أن إعادة صياغة المنطقة كان مشروعاً أميركياً جدياً صرح به جهاراً إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 2006، يوم أطلقت مقولة «الفوضى الخلاقة التي تنتج شرق أوسط جديداً» ما يعني هدم ما هو قائم بفوضى لا تبقي ولا تذر ثم إعادة رسم الخرائط على أرض مدمرة وإخراج بناء مشرقي تحت السيطرة الأميركية الكاملة، ولكن الفشل في 2006 أدى إلى اعتماد الحريق العربي بديلاً ميدانياً للتنفيذ.‏

والآن وبعد أكثر من أربع سنوات ورغم حجم التدمير الذي أصاب المنطقة في قلبها (العراق وسورية)، توقنت أميركا ومن معها بأن امتلاك السيطرة الكاملة على المنطقة أمر مستحيل لأن قوى المقاومة للمشروع الاستعماري ورغم ما أصاب بلادها ومناطقها من دمار وخسائر فإنها تستمر فاعلة في الميدان وتناور بما يمنع انتصار العدو ويمنع سقوط المنطقة بيده لذلك أعيد طرح التقسيم بذهنية تختلف عن سابقاتها.‏

ففي مشاريع التقسيم الأولى كانت الخطة تقوم على إنشاء الدويلات الواهنة الخاضعة جميعها للقرار الغربي، أما الآن فإن التقسيم يطرح الفرز بين دويلات تتبع لأميركا ودويلات تقاومها، ثم جعل الفئتين في صراع دائم يؤمن للغرب حضوراً دائماً في المنطقة بحجة دعم حلفائه، ومنع انتصار أعدائه.‏

 

إن طرح التقسيم وبالصيغة الجديدة يؤكد على إقرار غربي بالعجز عن هزيمة محور المقاومة، عجز يحول دون وضع اليد على كامل المنطقة فلجأ إلى طرح تقسيمها بين جزء له وجزء لخصومه، ما يعني أنه تراجع ظاهر عن حلم امتلاك الكل والاكتفاء المرحلي بالجزء. لكن الأمر لن يتوقف هنا، لأن الغرب لن يترك الجزء الذي سيخرج عن قبضته يعيش بسلام وتطور، بل سيكون عرضة لعقابه ثم لإخضاعه.‏

وإذا أضيف إلى ذلك تخلف معظم الكيانات التي ستخرج بالتقسيم عن امتلاك مقومات الدولة القابلة للحياة، فان النتيجة التي سيؤدي إليها التقسيم ذاك هو وضع الكيانات الجديدة في صراع دائم أو حرب مستمرة دفاعاً عن «حدود فرضت أو ثروات اقتطعت أو مفاهيم انتهكت.. الخ ...». حروب تبقي الباب مفتوحاً على مصراعيه للغرب للتدخل ونهب الثروات التي ينشغل عنها أصحابها بصراعاتهم.‏

وعندما أقول التقسيم الذي يريده الغرب لا أتوقف كثيراً عند الصيغ المعتمدة له والتي تتراوح بين إقامة دويلات مكتملة الاستقلال لا ترتبط فيما بينها بأي رباط، أو إنتاج فيدرالية واهنة يكون شكلها الخارجي دولة واحدة أما مضمونها فيكون استقلالاً شبه ناجز وفي هذا الفرض شكلان: الأول الخيار الكردي في العراق حيث إن الظاهر هو ارتباط كردستان بالدولة المركزية أما الحقيقة فهي أن كردستان دويلة مستقلة لا ينقصها إلا الاعتراف الدولي وبعض المسائل الإجرائية. والثاني الخيار اللبناني ودولة الطائف حيث فيدرالية الطوائف المتخاصمة والمتساكنة أي دويلة الرؤوس المتعددة والتعطيل المتبادل مع الرأس ذي الأرجحية لحصد المكاسب وتخطي الآخرين بإشراف سعودي أميركي. وبين هذين النموذجين تكون نماذج أخرى أقل أو أشد وهناً.‏

أما الأداة التنفيذية لفرض هذا المشروع فيبدو أنها «القاعدة» وتفريعاتها من نصرة وداعش وسواهما، وهنا لا بد من التأكيد أن ما يسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) أو ما يسمى جبهة النصرة في بلاد الشام وغيرها من التنظيمات الإرهابية ليست هيئات ذات قابلية لإقامة دولة تنتظم أو يعترف بها دولياً، فوظيفة هذه التنظيمات هي القتل والهدم وإنتاج البيئة لفرض المشروع الغربي الذي تحول من الحلم بالسيطرة الكاملة إلى القبول المرحلي بالسيطرة الجزئية مع معاقبة الجزء الآخر بحرب دائمة.‏

وعليه فإن محاربة مشروع التقسيم بصيغته الجديدة لا تقل أهمية عن محاربة مشروع السيطرة الكاملة، لأن مشروع التقسيم هذا هو مشروع الحرب الدائمة والإفناء الذاتي. فاذا كانت أميركا عجزت بجيوشها عن إفناء شعوب المنطقة أو تهميشها كما فعلت بالهنود الحمر عندما أقامت دولة الأوروبيين والأغراب على الأرض الأميركية فإنها لجأت كما يبدو إلى الحرب الإرهابية البديلة وهذا هو دور داعش والنصرة.‏

إن المنطقة ومحور المقاومة اليوم أمام هذا الخطر الكبير، وإننا نرى بأن للمحور بما يمتلكه من تبصر وطاقات القدرة الكافية لإسقاط هذا المشروع الإجرامي الشيطاني، وهو ما يقوم به الآن. ومن هنا يجب أن نفهم أن ما يتم في الميدان من مناورات قتالية بإقدام هنا للتطهير وتراجع هناك للاقتصاد بالقوى، أي كر وفر خدمة لاستراتيجية إسقاط مشروع التقسيم بعد النجاح بإسقاط مشاريع الهيمنة الكاملة. ولذلك لا نستعجل الحكم على حالة انسحاب هنا أو تراجع هناك فالأساس في الأمر البقاء على تحكم وسيطرة على الوضع والعمل وفقاً لخطة دفاع منهجي دون الوقوع في ردات فعل غير مدروسة.‏

  • فريق ماسة
  • 2015-05-31
  • 11084
  • من الأرشيف

دلالات مشروع التقسيم الجديد وصيغه والعوائق

في موقف لافت جاهرت فرنسا بالقول بان العراق وسورية يتجهان إلى التقسيم الفعلي، وكانت أميركا قبلها قد أثارت موضوع العراق طارحة التعامل المباشر مع مكونات ثلاثة فيه بتجاوز الدولة المركزية أي بعبارة أخرى العمل بالتقسيم الواقعي تمهيداً للتقسيم القانوني. كما أن مواقف أخرى صدرت عن مسؤولين أوروبيين وآخرين في الأمم المتحدة تفضي جميعها إلى القول بتشكل قناعة أجنبية بان الحريق الذي التهم المنطقة، التهم وحدة الدول فيها وأن النيران القائمة لا يطفئها إلا تقسيم تلك الدول.‏ مع هذه المواقف التي تؤشر إلى أن الغرب الذي شن عدوانه على المنطقة مستعملاً أدوات محلية وإقليمية بات مقتنعاً بأن التقسيم هو الحل الوحيد للوضع. فهل هذا التصور صحيح؟ وما هي دلالاته؟ ولماذا وصل الغرب إلى هذا التصور؟ ثم هل بات تنفيذ المشروع ممكناً أو بحكم الحل الإجباري؟‏ في البداية لا بد من التأكيد على أن إعادة صياغة المنطقة كان مشروعاً أميركياً جدياً صرح به جهاراً إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 2006، يوم أطلقت مقولة «الفوضى الخلاقة التي تنتج شرق أوسط جديداً» ما يعني هدم ما هو قائم بفوضى لا تبقي ولا تذر ثم إعادة رسم الخرائط على أرض مدمرة وإخراج بناء مشرقي تحت السيطرة الأميركية الكاملة، ولكن الفشل في 2006 أدى إلى اعتماد الحريق العربي بديلاً ميدانياً للتنفيذ.‏ والآن وبعد أكثر من أربع سنوات ورغم حجم التدمير الذي أصاب المنطقة في قلبها (العراق وسورية)، توقنت أميركا ومن معها بأن امتلاك السيطرة الكاملة على المنطقة أمر مستحيل لأن قوى المقاومة للمشروع الاستعماري ورغم ما أصاب بلادها ومناطقها من دمار وخسائر فإنها تستمر فاعلة في الميدان وتناور بما يمنع انتصار العدو ويمنع سقوط المنطقة بيده لذلك أعيد طرح التقسيم بذهنية تختلف عن سابقاتها.‏ ففي مشاريع التقسيم الأولى كانت الخطة تقوم على إنشاء الدويلات الواهنة الخاضعة جميعها للقرار الغربي، أما الآن فإن التقسيم يطرح الفرز بين دويلات تتبع لأميركا ودويلات تقاومها، ثم جعل الفئتين في صراع دائم يؤمن للغرب حضوراً دائماً في المنطقة بحجة دعم حلفائه، ومنع انتصار أعدائه.‏   إن طرح التقسيم وبالصيغة الجديدة يؤكد على إقرار غربي بالعجز عن هزيمة محور المقاومة، عجز يحول دون وضع اليد على كامل المنطقة فلجأ إلى طرح تقسيمها بين جزء له وجزء لخصومه، ما يعني أنه تراجع ظاهر عن حلم امتلاك الكل والاكتفاء المرحلي بالجزء. لكن الأمر لن يتوقف هنا، لأن الغرب لن يترك الجزء الذي سيخرج عن قبضته يعيش بسلام وتطور، بل سيكون عرضة لعقابه ثم لإخضاعه.‏ وإذا أضيف إلى ذلك تخلف معظم الكيانات التي ستخرج بالتقسيم عن امتلاك مقومات الدولة القابلة للحياة، فان النتيجة التي سيؤدي إليها التقسيم ذاك هو وضع الكيانات الجديدة في صراع دائم أو حرب مستمرة دفاعاً عن «حدود فرضت أو ثروات اقتطعت أو مفاهيم انتهكت.. الخ ...». حروب تبقي الباب مفتوحاً على مصراعيه للغرب للتدخل ونهب الثروات التي ينشغل عنها أصحابها بصراعاتهم.‏ وعندما أقول التقسيم الذي يريده الغرب لا أتوقف كثيراً عند الصيغ المعتمدة له والتي تتراوح بين إقامة دويلات مكتملة الاستقلال لا ترتبط فيما بينها بأي رباط، أو إنتاج فيدرالية واهنة يكون شكلها الخارجي دولة واحدة أما مضمونها فيكون استقلالاً شبه ناجز وفي هذا الفرض شكلان: الأول الخيار الكردي في العراق حيث إن الظاهر هو ارتباط كردستان بالدولة المركزية أما الحقيقة فهي أن كردستان دويلة مستقلة لا ينقصها إلا الاعتراف الدولي وبعض المسائل الإجرائية. والثاني الخيار اللبناني ودولة الطائف حيث فيدرالية الطوائف المتخاصمة والمتساكنة أي دويلة الرؤوس المتعددة والتعطيل المتبادل مع الرأس ذي الأرجحية لحصد المكاسب وتخطي الآخرين بإشراف سعودي أميركي. وبين هذين النموذجين تكون نماذج أخرى أقل أو أشد وهناً.‏ أما الأداة التنفيذية لفرض هذا المشروع فيبدو أنها «القاعدة» وتفريعاتها من نصرة وداعش وسواهما، وهنا لا بد من التأكيد أن ما يسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) أو ما يسمى جبهة النصرة في بلاد الشام وغيرها من التنظيمات الإرهابية ليست هيئات ذات قابلية لإقامة دولة تنتظم أو يعترف بها دولياً، فوظيفة هذه التنظيمات هي القتل والهدم وإنتاج البيئة لفرض المشروع الغربي الذي تحول من الحلم بالسيطرة الكاملة إلى القبول المرحلي بالسيطرة الجزئية مع معاقبة الجزء الآخر بحرب دائمة.‏ وعليه فإن محاربة مشروع التقسيم بصيغته الجديدة لا تقل أهمية عن محاربة مشروع السيطرة الكاملة، لأن مشروع التقسيم هذا هو مشروع الحرب الدائمة والإفناء الذاتي. فاذا كانت أميركا عجزت بجيوشها عن إفناء شعوب المنطقة أو تهميشها كما فعلت بالهنود الحمر عندما أقامت دولة الأوروبيين والأغراب على الأرض الأميركية فإنها لجأت كما يبدو إلى الحرب الإرهابية البديلة وهذا هو دور داعش والنصرة.‏ إن المنطقة ومحور المقاومة اليوم أمام هذا الخطر الكبير، وإننا نرى بأن للمحور بما يمتلكه من تبصر وطاقات القدرة الكافية لإسقاط هذا المشروع الإجرامي الشيطاني، وهو ما يقوم به الآن. ومن هنا يجب أن نفهم أن ما يتم في الميدان من مناورات قتالية بإقدام هنا للتطهير وتراجع هناك للاقتصاد بالقوى، أي كر وفر خدمة لاستراتيجية إسقاط مشروع التقسيم بعد النجاح بإسقاط مشاريع الهيمنة الكاملة. ولذلك لا نستعجل الحكم على حالة انسحاب هنا أو تراجع هناك فالأساس في الأمر البقاء على تحكم وسيطرة على الوضع والعمل وفقاً لخطة دفاع منهجي دون الوقوع في ردات فعل غير مدروسة.‏

المصدر : د. أمين حطيط


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة