فصل جديد من تداعيات «الربيع العربي» المتواصلة: الاهتزاز الشديد في العلاقات الأميركية ـــ الخليجية، لا سيما بين واشنطن والرياض. بعد انتهاء الحرب العراقية ـــ الإيرانية جاءت حرب تحرير الكويت بقيادة أميركية لتعيد موازين القوى في الخليج إلى سابق عهدها. الغزو الأميركي للعراق نتج منه تبدّل في موازين القوى الداخلية لمصلحة إيران وحلفائها. اختل التوازن من جديد، لكن هذه المرة من داخل مجلس التعاون، مع أزمة العلاقات بين قطر والسعودية، وتمّ استيعابها أخيراً بأقل الأضرار الممكنة. وسرعان ما واجهت دول الخليج تحديات جديدة مصدرها «الربيع العربي»، تحديداً الصدام بين النظام الحاكم في البحرين والمعارضة، تبعه تدخل عسكري سعودي بغطاء من مجلس التعاون الخليجي. وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر أقلق الرياض، فالعلاقات بين السعودية والإخوان لم تكن سوية على رغم الدعم الذي قدمته الرياض للإخوان عندما كانت الجماعة محظورة في مصر. في الأزمة السورية، راهنت السعودية وقطر عبثاً على الدعم الأميركي والغربي لإسقاط النظام السوري. أما «القنبلة» المدوّية فجاءت من عُمان ولوزان، بعد جولات التفاوض المباشر بين واشنطن وطهران. مصدر القلق الخليجي يعود إلى إمكانية تطبيع العلاقات بين واشنطن وطهران أكثر ممّا هو حول الملف النووي. من وجهة نظر خليجية، سعودية تحديداً، إنها حالة لا تطاق: أميركا، الحليف الأول لدول مجلس التعاون منخرطة، وباقتناع كامل من رئيسها، في مشروع تفاهم مع إيران، العدو الإقليمي الأول وسبب إنشاء مجلس التعاون في 1981 بدعم أميركي.

هذه التحوّلات الكبرى حصلت في فترة زمنية قصيرة، بينما الرئيس الأميركي باراك أوباما يعتمد مقاربة جديدة لعلاقات بلاده مع دول مجلس التعاون. «عاصفة الحزم» كانت عملياً الرد السعودي على هذه التطورات المتسارعة، بعدما طفح كيل الانتظار والوعود الملتبسة، وكأنها شيكات بلا رصيد. اجتماع كامب ديفيد الأخير بين قادة الخليج والرئيس الأميركي جاء ليؤكد أن حساب العلاقات الأميركية ـــ الخليجية رصيده مؤمّن، فلن تسحب واشنطن المظلة الأمنية بل ستعززها لحماية دول مجلس التعاون من أي خطر خارجي يهدّد أمنها، ولها مصلحة استراتيجية في ذلك. إلا أن التحديات التي تواجهها دول الخليج ليست حصراً خارجية، بل هي أيضاً، بحسب أوباما، داخلية. وهنا مكمن الحذر الإضافي في العلاقات بين الطرفين. الرئيس الأميركي يضع معايير جديدة في مقاربة العلاقات الأميركية ـــ الخليجية، وقد تدخل في سياق السياسة الأميركية حتى بعد أوباما، إذ يتساءل الرئيس الأميركي في حديثه إلى النيويورك تايمز عمّا يمكن أن تقدمه دول الخليج في محاربة الإرهاب في سوريا والمنطقة. بكلام آخر، لن تلعب واشنطن دور البوليس بالنيابة عن غيرها. أما الحليف الفرنسي فلا يشفي الغليل على رغم أن باريس تشارك دول الخليج أهدافها وتطلعاتها تجاه إيران وسوريا.

الأوضاع المستجدة لا تطمئن دول مجلس التعاون بعدما كانت علاقاتها مع واشنطن واضحة المعالم والأهداف منذ ثلاثينيات القرن العشرين. ثمة «شريك مضارب» دخل على الخط. علاقات أميركا مع إيران تسير باتجاه مغاير لما اعتادت عليه دول المنطقة، في العالم العربي وتركيا وإسرائيل، بعد 36 سنة على القطيعة مع طهران و25 سنة على انتهاء الحرب الباردة. كما أن أوضاع إيران الإقليمية لن تكون سهلة بعد الاتفاق مع واشنطن وبسببه. إيران دولة متماسكة ولديها قدرات عسكرية واقتصادية لا يُستهان بها وستكون أقوى في حال تمّ الاتفاق مع الدول الكبرى ورُفع الحظر عنها، إلا أن التمدّد الإيراني في المنطقة لن يكون بلا حساب أو حدود. وحرب اليمن خير دليل على ذلك.

حرب اليمن جسّدت حزم المملكة العربية السعودية لخوض حرب جوية واسعة، انتهت بغالب ومغلوب. المغلوب هو اليمن وأهله، المغلوب على أمرهم، والغالب هم جيران اليمن. بعد «عاصفة الحزم» لن يكون العزم كافياً لإعادة بناء اليمن في نظام سياسي مستقر ومجتمع متماسك. اليمن تتجاذبه انقسامات داخلية حادة وصراعات نفوذ إقليمية، وهو ليس يمن ما بعد المصالحة بين جمال عبد الناصر والملك فيصل بعد حرب 1967، التي أنهت حرب الستينيات، كما أنه ليس يمن التسعينيات بعد الوحدة بين الشمال والجنوب. يمن اليوم لا يشبه أياً من المنعطفات الكبرى في تاريخ البلاد الحديث، وهو سائر على خطى ليبيا والصومال.

عندما اجتاح صدام حسين الكويت في 1990 وشكل تهديداً مباشراً لأمن الخليج وثرواته النفطية، كان مجلس التعاون أكثر تماسكاً وإيران خارجة من حرب ضروس مع العراق، وأميركا في جهوزية كاملة للتصدي للعدوان العراقي بينما الاتحاد السوفياتي في النزاع الأخير. مشهد ما بعد حرب اليمن اليوم شديد الاختلاف عمّا سبقه، وتحديداً في المرحلة التي تلت حروب العراق والخليج الأخيرة.

حرب تحرير الكويت أعطت الزخم السياسي المطلوب لإطلاق مفاوضات السلام العربية - الإسرائيلية في 1991 بدعم حاسم من إدارة الرئيس جورج بوش الأب على رغم معارضة إسرائيل. أما «عاصفة الحزم» فلن تطلق أي زخم لإيجاد حلول لنزاعات المنطقة. واشنطن منشغلة بأولوياتها، والمشرق العربي ساحة لحروبه ولحروب الآخرين، واليمن ضائع بين حزم جوي متواصل وعزم أرضي مفقود. أقصى ما يمكن أن تنتجه تداعيات حرب اليمن محاولة إعادة بناء الثقة بين واشنطن ودول الخليج على رغم التشكيك المتبادل بجدواها من الطرفين.

  • فريق ماسة
  • 2015-05-22
  • 4371
  • من الأرشيف

العلاقات الأميركية ـ الخليجية حزم بلا عزم

فصل جديد من تداعيات «الربيع العربي» المتواصلة: الاهتزاز الشديد في العلاقات الأميركية ـــ الخليجية، لا سيما بين واشنطن والرياض. بعد انتهاء الحرب العراقية ـــ الإيرانية جاءت حرب تحرير الكويت بقيادة أميركية لتعيد موازين القوى في الخليج إلى سابق عهدها. الغزو الأميركي للعراق نتج منه تبدّل في موازين القوى الداخلية لمصلحة إيران وحلفائها. اختل التوازن من جديد، لكن هذه المرة من داخل مجلس التعاون، مع أزمة العلاقات بين قطر والسعودية، وتمّ استيعابها أخيراً بأقل الأضرار الممكنة. وسرعان ما واجهت دول الخليج تحديات جديدة مصدرها «الربيع العربي»، تحديداً الصدام بين النظام الحاكم في البحرين والمعارضة، تبعه تدخل عسكري سعودي بغطاء من مجلس التعاون الخليجي. وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر أقلق الرياض، فالعلاقات بين السعودية والإخوان لم تكن سوية على رغم الدعم الذي قدمته الرياض للإخوان عندما كانت الجماعة محظورة في مصر. في الأزمة السورية، راهنت السعودية وقطر عبثاً على الدعم الأميركي والغربي لإسقاط النظام السوري. أما «القنبلة» المدوّية فجاءت من عُمان ولوزان، بعد جولات التفاوض المباشر بين واشنطن وطهران. مصدر القلق الخليجي يعود إلى إمكانية تطبيع العلاقات بين واشنطن وطهران أكثر ممّا هو حول الملف النووي. من وجهة نظر خليجية، سعودية تحديداً، إنها حالة لا تطاق: أميركا، الحليف الأول لدول مجلس التعاون منخرطة، وباقتناع كامل من رئيسها، في مشروع تفاهم مع إيران، العدو الإقليمي الأول وسبب إنشاء مجلس التعاون في 1981 بدعم أميركي. هذه التحوّلات الكبرى حصلت في فترة زمنية قصيرة، بينما الرئيس الأميركي باراك أوباما يعتمد مقاربة جديدة لعلاقات بلاده مع دول مجلس التعاون. «عاصفة الحزم» كانت عملياً الرد السعودي على هذه التطورات المتسارعة، بعدما طفح كيل الانتظار والوعود الملتبسة، وكأنها شيكات بلا رصيد. اجتماع كامب ديفيد الأخير بين قادة الخليج والرئيس الأميركي جاء ليؤكد أن حساب العلاقات الأميركية ـــ الخليجية رصيده مؤمّن، فلن تسحب واشنطن المظلة الأمنية بل ستعززها لحماية دول مجلس التعاون من أي خطر خارجي يهدّد أمنها، ولها مصلحة استراتيجية في ذلك. إلا أن التحديات التي تواجهها دول الخليج ليست حصراً خارجية، بل هي أيضاً، بحسب أوباما، داخلية. وهنا مكمن الحذر الإضافي في العلاقات بين الطرفين. الرئيس الأميركي يضع معايير جديدة في مقاربة العلاقات الأميركية ـــ الخليجية، وقد تدخل في سياق السياسة الأميركية حتى بعد أوباما، إذ يتساءل الرئيس الأميركي في حديثه إلى النيويورك تايمز عمّا يمكن أن تقدمه دول الخليج في محاربة الإرهاب في سوريا والمنطقة. بكلام آخر، لن تلعب واشنطن دور البوليس بالنيابة عن غيرها. أما الحليف الفرنسي فلا يشفي الغليل على رغم أن باريس تشارك دول الخليج أهدافها وتطلعاتها تجاه إيران وسوريا. الأوضاع المستجدة لا تطمئن دول مجلس التعاون بعدما كانت علاقاتها مع واشنطن واضحة المعالم والأهداف منذ ثلاثينيات القرن العشرين. ثمة «شريك مضارب» دخل على الخط. علاقات أميركا مع إيران تسير باتجاه مغاير لما اعتادت عليه دول المنطقة، في العالم العربي وتركيا وإسرائيل، بعد 36 سنة على القطيعة مع طهران و25 سنة على انتهاء الحرب الباردة. كما أن أوضاع إيران الإقليمية لن تكون سهلة بعد الاتفاق مع واشنطن وبسببه. إيران دولة متماسكة ولديها قدرات عسكرية واقتصادية لا يُستهان بها وستكون أقوى في حال تمّ الاتفاق مع الدول الكبرى ورُفع الحظر عنها، إلا أن التمدّد الإيراني في المنطقة لن يكون بلا حساب أو حدود. وحرب اليمن خير دليل على ذلك. حرب اليمن جسّدت حزم المملكة العربية السعودية لخوض حرب جوية واسعة، انتهت بغالب ومغلوب. المغلوب هو اليمن وأهله، المغلوب على أمرهم، والغالب هم جيران اليمن. بعد «عاصفة الحزم» لن يكون العزم كافياً لإعادة بناء اليمن في نظام سياسي مستقر ومجتمع متماسك. اليمن تتجاذبه انقسامات داخلية حادة وصراعات نفوذ إقليمية، وهو ليس يمن ما بعد المصالحة بين جمال عبد الناصر والملك فيصل بعد حرب 1967، التي أنهت حرب الستينيات، كما أنه ليس يمن التسعينيات بعد الوحدة بين الشمال والجنوب. يمن اليوم لا يشبه أياً من المنعطفات الكبرى في تاريخ البلاد الحديث، وهو سائر على خطى ليبيا والصومال. عندما اجتاح صدام حسين الكويت في 1990 وشكل تهديداً مباشراً لأمن الخليج وثرواته النفطية، كان مجلس التعاون أكثر تماسكاً وإيران خارجة من حرب ضروس مع العراق، وأميركا في جهوزية كاملة للتصدي للعدوان العراقي بينما الاتحاد السوفياتي في النزاع الأخير. مشهد ما بعد حرب اليمن اليوم شديد الاختلاف عمّا سبقه، وتحديداً في المرحلة التي تلت حروب العراق والخليج الأخيرة. حرب تحرير الكويت أعطت الزخم السياسي المطلوب لإطلاق مفاوضات السلام العربية - الإسرائيلية في 1991 بدعم حاسم من إدارة الرئيس جورج بوش الأب على رغم معارضة إسرائيل. أما «عاصفة الحزم» فلن تطلق أي زخم لإيجاد حلول لنزاعات المنطقة. واشنطن منشغلة بأولوياتها، والمشرق العربي ساحة لحروبه ولحروب الآخرين، واليمن ضائع بين حزم جوي متواصل وعزم أرضي مفقود. أقصى ما يمكن أن تنتجه تداعيات حرب اليمن محاولة إعادة بناء الثقة بين واشنطن ودول الخليج على رغم التشكيك المتبادل بجدواها من الطرفين.

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة