لم يكن العدوان التركي على الدولة السورية في 22 شباط 2015 مجرد توغل أقدمت عليه قوة عسكرية تركية قوامها 39 دبابة مدعومة بطائرات من دون طيار دخلت الأراضي السورية وقامت بإجلاء ثمانية وثلاثين جندياً تركيا مع رفات السلطان «سليمان شاه» الذي كان أول الفارين يوم غزا المغول بلاده وأعملوا السيف في رقبة شعبه في عام 1227، هذا العدوان كان مناسبة لتقول المعارضة التركية رأيها الحقيقي بما يعتبره السوريون سيادة وطنية، ولا أبالغ إن قلت إن موقفها ذهب أبعد مما ذهبت إليه الحكومة التركية وذلك كما تظهره الوقائع التي تلت العدوان.

 

بالنسبة للحكومة التركية اعتبر رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو أن «هذه العملية العسكرية تقررت بسبب تدهور الوضع الأمني حول الجَيب التركي في سورية، وقد تمت السيطرة على منطقة بالقرب من قرية «آشمة» تمهيدًا لنقل رفات سليمان شاه إليها في وقت لاحق». أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فقد أعلن أن «ضريح سليمان شاه سيستمر في إحياء ذكريات أجدادنا عبر رفع علم تركيا في المكان الجديد الذي سينقل إليه بموجب الاتفاقيات الدولية».

 

بدورها أجمعت أحزاب المعارضة التركية أن نقل الضريح يعني «انسحاباً من آخر الأراضي التركية خارج الحدود التركية» بحسب الأمين العام لحزب الشعب التركي غورسيل تكين الذي أضاف: إنه «للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية التركية نخسر أراضينا من دون قتال، إنه أمر غير مقبول». أما رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كيليتشدار اوغلو فقد انتقد عملية تغيير مكان الضريح ووصفها «بوصمة العار على جبين تركيا»، مؤكداً «أن تركيا لا تصبح دولة قوية من خلال التخلي عن أراضي الوطن التركي أمام أول تهديد بل من خلال تلقين الإرهابيين درساً جيداً»، من جهة أخرى، دولت باهتشلي رئيس حزب الحركة القومية قال: إن «حكومة حزب العدالة والتنمية تخلت بشكل جبان عن ضريح سليمان شاه الواقع على الأرض السورية والذي يعتبر جزءاً من أراضي الوطن، وهي بذلك تكون قد قطعت الشريان السُباتي لتركيا وتخلت عن أرض الوطن الموروثة عن الأجداد».

ردود الأفعال المذكورة أعلاه تقول أمرين: الأول أن هناك إجماعاً في الأوساط السياسية التركية (معارضة وأكثرية) على أن «العملية العسكرية» التركية ضد سيادة الدولة السورية لم تكن جريمة عدوان أي ليست استخداما للقوة المسلحة من جانب دولة ضد سيادة دولة أخرى ووحدتها الإقليمية بأسلوب يتناقض وميثاق الأمم المتحدة، أي أنها لا ترى أن هذه «العملية العسكرية» تشكل انتهاكا للمادة الثانية (ف 4) من ميثاق الأمم المتحدة والتي نصت على أنه: «يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد «الأمم المتحدة»، المعارضة التركية مجتمعة لا ترى في كل ما تقدم أدنى مشكلة، فمشكلتها هي أن العار سيجلل تركيا إلى الأبد لأنها تخلت عن أرض سورية تخضع للسيادة التركية بحسب اتفاقية أنقرة المبرمة بين فرنسا وتركيا في 21/10/1921.

الأمر الثاني هو أن المعارضة التركية -شأنها شأن الحكومة التركية- تعتبر أن اتفاقية أنقرة لعام 1921 مازالت نافذة على الرغم من كل الانتهاكات التي تتضمنها والظروف التي أحاطت بها، وبالرغم من أنها -مثل وعد بلفور- استثناء من مبدأ فاقد الشيء لا يعطيه، موقفنا هذا من بطلان هذه الاتفاقية يستند إلى الاعتبارات التالية:

أولاً: هذه الاتفاقية جرى توقيعها بين هنري فرانكلين - بويّون رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الفرنسي بوصفه ممثلا لفرنسا كدولة انتداب من جهة، وبين وزير خارجية تركيا يوسف كمال من جهة ثانية، وواضح أن لا وجود لأي طرف سوري كممثل عن السلطة التنفيذية في هذه الاتفاقية.

ثانياً: في التاسع من تشرين الثاني من عام 1921 جرى إقرار هذه الاتفاقية من البرلمان التركي المعروف وقتها باسم «المجلس الشعبي الكبير»، كما وتمّ إقرارها من البرلمان الفرنسي بتاريخ الرابع والعشرين من حزيران عام 1923، في حين لم يُصادق عليها أي برلمان أو مجلس شعب سوري لاحقا.

ثالثاً: اتفاقية انقره لعام 1921 هي انتهاك فاضح لصك الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان والذي ألزم فرنسا كدولة انتداب بالحفاظ على السلامة الإقليمية للدولة الواقعة تحت الانتداب.

رابعاً: اتفاقية انقره لعام 1921 تنتهك الواجبات التي فرضتها الاتفاقيات الدولية على عاتق الدولة المُحتلة ولاسيما المواد من 42- 56 من لائحة لاهاي لعام 1907، والمواد من 27 حتى 34 ومن 47 حتى 78 من اتفاقية جنيف الرابعة، هذا بالإضافة إلى بعض أحكام البروتوكول الإضافي الأول، وما جرى التأكيد عليه في القانون الدولي الإنساني العرفي.

خامساً: في عام 1973 أعلنت تركيا فعلياً تخليها عن اتفاقية انقره 1921 وذلك عندما طالبتها الحكومة السورية بنقل القبر إلى داخل الأراضي التركية كي لا تغمره مياه نهر الفرات لدى بناء السد، يومها التمس الأتراك من السوريين الإبقاء على القبر في الأراضي السورية ليُصار بعدها إلى نقل موضعه من قلعة جعبر في محافظة الرقة إلى قره قوزاق في محافظة ريف حلب، وبعدها تم وضع مخفر سوري على بعد أمتار من القبر وحاميته، هذا الأمر لم يكن عبثا إذ أرادت الحكومة السورية القول للأتراك إن القبر موجود على الأرض السورية وتحت السيادة السورية والعلم السوري، وإن احترام الرغبة التركية في الإبقاء على قبر السلطان الفار على الأرض السورية سببه الوحيد هو «حق الجوار».

موقف الحكومة والمعارضة التركية من العدوان التركي على سورية هو انقلاب على واحدة من أهم الأفكار التي طرحها جان جاك روسو في كتابه مبادئ القانون السياسي (المعروف أيضاً بالعقد الاجتماعي) الذي صدر عام 1762 أي بعد أكثر من 535 عاماً على غرق السلطان الفار في نهر الفرات، في هذا الكتاب يضع روسو قاعدة تجمع المعارضة والحكومة التركية على استبعادها من التعامل مع سورية الجريحة، القاعدة تقول: إن «الوقائع تُقاس بمقياس الحق لتقرير شرعيتها وليس العكس، والواقعة لا تسوغ الحق أياً كان هذا الحق».

 

  • فريق ماسة
  • 2015-03-01
  • 12662
  • من الأرشيف

المعارضة والحكومة التركية متفقتان: فاقد الشيء يعطيه!

لم يكن العدوان التركي على الدولة السورية في 22 شباط 2015 مجرد توغل أقدمت عليه قوة عسكرية تركية قوامها 39 دبابة مدعومة بطائرات من دون طيار دخلت الأراضي السورية وقامت بإجلاء ثمانية وثلاثين جندياً تركيا مع رفات السلطان «سليمان شاه» الذي كان أول الفارين يوم غزا المغول بلاده وأعملوا السيف في رقبة شعبه في عام 1227، هذا العدوان كان مناسبة لتقول المعارضة التركية رأيها الحقيقي بما يعتبره السوريون سيادة وطنية، ولا أبالغ إن قلت إن موقفها ذهب أبعد مما ذهبت إليه الحكومة التركية وذلك كما تظهره الوقائع التي تلت العدوان.   بالنسبة للحكومة التركية اعتبر رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو أن «هذه العملية العسكرية تقررت بسبب تدهور الوضع الأمني حول الجَيب التركي في سورية، وقد تمت السيطرة على منطقة بالقرب من قرية «آشمة» تمهيدًا لنقل رفات سليمان شاه إليها في وقت لاحق». أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فقد أعلن أن «ضريح سليمان شاه سيستمر في إحياء ذكريات أجدادنا عبر رفع علم تركيا في المكان الجديد الذي سينقل إليه بموجب الاتفاقيات الدولية».   بدورها أجمعت أحزاب المعارضة التركية أن نقل الضريح يعني «انسحاباً من آخر الأراضي التركية خارج الحدود التركية» بحسب الأمين العام لحزب الشعب التركي غورسيل تكين الذي أضاف: إنه «للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية التركية نخسر أراضينا من دون قتال، إنه أمر غير مقبول». أما رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كيليتشدار اوغلو فقد انتقد عملية تغيير مكان الضريح ووصفها «بوصمة العار على جبين تركيا»، مؤكداً «أن تركيا لا تصبح دولة قوية من خلال التخلي عن أراضي الوطن التركي أمام أول تهديد بل من خلال تلقين الإرهابيين درساً جيداً»، من جهة أخرى، دولت باهتشلي رئيس حزب الحركة القومية قال: إن «حكومة حزب العدالة والتنمية تخلت بشكل جبان عن ضريح سليمان شاه الواقع على الأرض السورية والذي يعتبر جزءاً من أراضي الوطن، وهي بذلك تكون قد قطعت الشريان السُباتي لتركيا وتخلت عن أرض الوطن الموروثة عن الأجداد». ردود الأفعال المذكورة أعلاه تقول أمرين: الأول أن هناك إجماعاً في الأوساط السياسية التركية (معارضة وأكثرية) على أن «العملية العسكرية» التركية ضد سيادة الدولة السورية لم تكن جريمة عدوان أي ليست استخداما للقوة المسلحة من جانب دولة ضد سيادة دولة أخرى ووحدتها الإقليمية بأسلوب يتناقض وميثاق الأمم المتحدة، أي أنها لا ترى أن هذه «العملية العسكرية» تشكل انتهاكا للمادة الثانية (ف 4) من ميثاق الأمم المتحدة والتي نصت على أنه: «يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد «الأمم المتحدة»، المعارضة التركية مجتمعة لا ترى في كل ما تقدم أدنى مشكلة، فمشكلتها هي أن العار سيجلل تركيا إلى الأبد لأنها تخلت عن أرض سورية تخضع للسيادة التركية بحسب اتفاقية أنقرة المبرمة بين فرنسا وتركيا في 21/10/1921. الأمر الثاني هو أن المعارضة التركية -شأنها شأن الحكومة التركية- تعتبر أن اتفاقية أنقرة لعام 1921 مازالت نافذة على الرغم من كل الانتهاكات التي تتضمنها والظروف التي أحاطت بها، وبالرغم من أنها -مثل وعد بلفور- استثناء من مبدأ فاقد الشيء لا يعطيه، موقفنا هذا من بطلان هذه الاتفاقية يستند إلى الاعتبارات التالية: أولاً: هذه الاتفاقية جرى توقيعها بين هنري فرانكلين - بويّون رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الفرنسي بوصفه ممثلا لفرنسا كدولة انتداب من جهة، وبين وزير خارجية تركيا يوسف كمال من جهة ثانية، وواضح أن لا وجود لأي طرف سوري كممثل عن السلطة التنفيذية في هذه الاتفاقية. ثانياً: في التاسع من تشرين الثاني من عام 1921 جرى إقرار هذه الاتفاقية من البرلمان التركي المعروف وقتها باسم «المجلس الشعبي الكبير»، كما وتمّ إقرارها من البرلمان الفرنسي بتاريخ الرابع والعشرين من حزيران عام 1923، في حين لم يُصادق عليها أي برلمان أو مجلس شعب سوري لاحقا. ثالثاً: اتفاقية انقره لعام 1921 هي انتهاك فاضح لصك الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان والذي ألزم فرنسا كدولة انتداب بالحفاظ على السلامة الإقليمية للدولة الواقعة تحت الانتداب. رابعاً: اتفاقية انقره لعام 1921 تنتهك الواجبات التي فرضتها الاتفاقيات الدولية على عاتق الدولة المُحتلة ولاسيما المواد من 42- 56 من لائحة لاهاي لعام 1907، والمواد من 27 حتى 34 ومن 47 حتى 78 من اتفاقية جنيف الرابعة، هذا بالإضافة إلى بعض أحكام البروتوكول الإضافي الأول، وما جرى التأكيد عليه في القانون الدولي الإنساني العرفي. خامساً: في عام 1973 أعلنت تركيا فعلياً تخليها عن اتفاقية انقره 1921 وذلك عندما طالبتها الحكومة السورية بنقل القبر إلى داخل الأراضي التركية كي لا تغمره مياه نهر الفرات لدى بناء السد، يومها التمس الأتراك من السوريين الإبقاء على القبر في الأراضي السورية ليُصار بعدها إلى نقل موضعه من قلعة جعبر في محافظة الرقة إلى قره قوزاق في محافظة ريف حلب، وبعدها تم وضع مخفر سوري على بعد أمتار من القبر وحاميته، هذا الأمر لم يكن عبثا إذ أرادت الحكومة السورية القول للأتراك إن القبر موجود على الأرض السورية وتحت السيادة السورية والعلم السوري، وإن احترام الرغبة التركية في الإبقاء على قبر السلطان الفار على الأرض السورية سببه الوحيد هو «حق الجوار». موقف الحكومة والمعارضة التركية من العدوان التركي على سورية هو انقلاب على واحدة من أهم الأفكار التي طرحها جان جاك روسو في كتابه مبادئ القانون السياسي (المعروف أيضاً بالعقد الاجتماعي) الذي صدر عام 1762 أي بعد أكثر من 535 عاماً على غرق السلطان الفار في نهر الفرات، في هذا الكتاب يضع روسو قاعدة تجمع المعارضة والحكومة التركية على استبعادها من التعامل مع سورية الجريحة، القاعدة تقول: إن «الوقائع تُقاس بمقياس الحق لتقرير شرعيتها وليس العكس، والواقعة لا تسوغ الحق أياً كان هذا الحق».  

المصدر : د. عصام التكروري


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة