جلس القرفصاء أمام مرقد والده، مسح دموعه عن خديه، ووقف وقفة المجاهد ثمّ أدّى له التحية العسكرية، حاملاً مسدسه رافعاً إياه إلى الأعلى قائلاً :" قسماً بالله العلي العظيم .. بعد عشر سنوات سأثأر لك يا أبي ..".

"عشر سنوات"، هي المدة التي حدّدها جهاد عماد مغنية لنفسه ليثأر لأبيه من العدو الإسرائيلي.. سأله صاحبه، أبو علي رضا الذي كان يرافقه عن سر هذه المدة الزمنية الفاصلة بين الوعد وتحقيقه، أجابه بفخر واعتزاز :"إنها مدة التأهيل؛ لأصبح الابن الفعلي لعماد مغنية، ولأنطلق إلى تحرير فلسطين ..إنها حلمه وسأعمل لتحقيقه.. وسيأتي اليوم الذي يعرف الإسرائيلي من أكون".

يومها كان ابن السابعة عشر ربيعاً، لم يقدر على مجرد التخيل أن تخلو حياته من أبيه ..

العشق المتبادل كان سرّ علاقتهما، الوالد أدرك نبوغاً مميزاً عند فتاه، أولاه اهتماماً غير عادي، أعدَ له برنامجاً خاصاً. اصطحبه إلى أماكن عديدة على الجبهة في الجنوب اللبناني، وراح يوكله ببعض المهمات التي تحفّز طاقاته للظهور، وأثبت الفتى أنه مشروع فذ يحمل أملاً كبيراً في أن يكون قائداً ..

ولكن القيادة هذه المرة لن تكون لتحرير مزارع شبعا.. إنه قائد يحمل لواء التحرير إلى فلسطين .. رفع يده مشيراً له : "دربك سيبدأ من هنا إلى فلسطين .. من هنا في هذه البقعة التي نقف عليها ستبدأ عمليات تحرير الأقصى والقدس وكل فلسطين.."..

ولم تتوقف ظلال الوالد عند الجنوب، اصطحبه إلى سوريا، معقل العروبة والهوية والانتماء، بين دوربها علّمه القيادة، وبين أزقة الشام جعله يتنسّم عبق ذلك التاريخ الشامخ، الذي رسمت فيه الحوراء زينب (ع) شرارة التحدي وصيرورة الجهاد "كدْ كيدك" - للعدو - فإنك لن تمحو رسمنا..."ها نحن يا شام نعود إليك، ليس لدحر العدوان الإمبريالي – الرجعي – الوهابي- نحن عليه قادرون، وإنما إليك يا فلسطين سندخل فاتحين"..

كان همّه الأوحد الالتحام في معركة الفصل مع الإسرائيلي، تماماً مثل والده. كلهم أحسوا به عماداً يقف بينهم، يوم ولي مسؤولية أحد المواقع وهو يقول لهم، وهو أصغرهم سناً، يمتشق سلاحه ويده على جعبته :" أنا أصغركم، صحيح، لست آمراً عليكم نهياً وتوجيهاً، أنا واحد منكم، ففي العمل المقاوم لا يقف العمر حائلاً بيني وبينكم، في العمل المقاوم كلنا عضد واحد، سلوني وناقشوني .. فأنتم جند صاحب العصر والزمان (عج) .. لا تستهينوا بمقدراتكم، فهي كامنة فيكم، لن تعرفوها إلا في الميدان ..".

لله درّه من قائد يصوّب الإرشاد حيث يجب أن يكون.. يوم أتاه الحاج "خليل"، يشكو له ضغط العمل وجسامة المسؤولية التي ألقاها على كاهله، طالباً إعفاءه منها.. نظر إليه ملياً، وسأله سؤال العارف :"هل تعرّفت يوماً فن الإدارة؟".. تعجّب الرجل الأربعيني من سؤال "مسؤوله العشريني".. ولبث ساكتاً .. أخذ ورقة وقلما، وراح يدوّن بصمتٍ كان مدويا على الحاج خليل.. ماذا يكتب "جواد".. هل يخطّ قرار الاعفاء من مسؤولية ذلك الملف؟!.. خمس دقائق.. عشر دقائق.. مرّت و"جواد" يكتب، وخليل يتصبب عرقاً..وأخيراً رفع "القائد العشريني" رأسه ووقف متقدماً من صاحبه يربت على كتفه ويقول :"هذا برنامج أسبوعي، فيه تفصيل لمهماتك المطلوبة يوما بيوم.. وسأخصص لك أحد الأخوة ليكون معاونك.."..

الحاج خليل يبلع ريقه، والعجب أوقفه عن الكلام والتعليق، لكنّ صوت "جواد" استمر صداّحاً في غرفة المكتب متابعاً :"وبعد اليوم لا أريد أن أسمع كلمة لا أقدر"..

وأصبحا صديقين، وانتشر بين الشباب أن مسؤولهم "جواد"، مسؤول يقول وينفّذ..وهو أيضاً يحفّزهم، يمدّ لهم يد العون، "اختصر لي بكلمتين ما  مشكلتك تحديداً.."، قال له أحمد :"إني أفتقر لمبلغ من المال، فعائلتي...".. ولم يدعه يكمل، فتح حقيبته الخاصة، وأعطاه ما يحتاجه .."احتفظ بالأمر سراً بيننا"..

ولكنّه جواد، وصاحب الجود، لا يمكنه إخفاء كرمه، فكان كأبيه .. لا يردّ للمجاهدين حاجة.. وإذا أراد ملاطفة أحدهم فإنه لا يقبل إلا أن يطعمه بيده.. كانوا بالنسبة إليه " كلكن متل بعض"..لا يفرّق بين مسؤول وعنصر، صارماً في أوامره، جواداً في تعامله..

وكان حالماً .. كأبيه، وهو يقف على بقعة تطل على الجولان السوري المحتل، أشار إلى أبي علي رضا في اتجاه محدد وهو يقول :"في هذا الاتجاه، هناك حيفا، حيث الحديقة البهائية الباهرة الجمال، سوف أطئها بقدمي هاتين وسوف أتنزّه هناك.."..

لم يكتب لك يا جهاد أن تحقق هذه الأمنية بنفسك، ولكنك كنت القائد في استشهادك واستشهاد رفاقك على طريق الجولان .. نحو بوابة فلسطين .. كل فلسطين..

  • فريق ماسة
  • 2015-01-29
  • 11272
  • من الأرشيف

"سيأتي اليوم الذي يعرف الإسرائيلي من أكون".. عرفك يا "جهاد" مرتعداً

جلس القرفصاء أمام مرقد والده، مسح دموعه عن خديه، ووقف وقفة المجاهد ثمّ أدّى له التحية العسكرية، حاملاً مسدسه رافعاً إياه إلى الأعلى قائلاً :" قسماً بالله العلي العظيم .. بعد عشر سنوات سأثأر لك يا أبي ..". "عشر سنوات"، هي المدة التي حدّدها جهاد عماد مغنية لنفسه ليثأر لأبيه من العدو الإسرائيلي.. سأله صاحبه، أبو علي رضا الذي كان يرافقه عن سر هذه المدة الزمنية الفاصلة بين الوعد وتحقيقه، أجابه بفخر واعتزاز :"إنها مدة التأهيل؛ لأصبح الابن الفعلي لعماد مغنية، ولأنطلق إلى تحرير فلسطين ..إنها حلمه وسأعمل لتحقيقه.. وسيأتي اليوم الذي يعرف الإسرائيلي من أكون". يومها كان ابن السابعة عشر ربيعاً، لم يقدر على مجرد التخيل أن تخلو حياته من أبيه .. العشق المتبادل كان سرّ علاقتهما، الوالد أدرك نبوغاً مميزاً عند فتاه، أولاه اهتماماً غير عادي، أعدَ له برنامجاً خاصاً. اصطحبه إلى أماكن عديدة على الجبهة في الجنوب اللبناني، وراح يوكله ببعض المهمات التي تحفّز طاقاته للظهور، وأثبت الفتى أنه مشروع فذ يحمل أملاً كبيراً في أن يكون قائداً .. ولكن القيادة هذه المرة لن تكون لتحرير مزارع شبعا.. إنه قائد يحمل لواء التحرير إلى فلسطين .. رفع يده مشيراً له : "دربك سيبدأ من هنا إلى فلسطين .. من هنا في هذه البقعة التي نقف عليها ستبدأ عمليات تحرير الأقصى والقدس وكل فلسطين..".. ولم تتوقف ظلال الوالد عند الجنوب، اصطحبه إلى سوريا، معقل العروبة والهوية والانتماء، بين دوربها علّمه القيادة، وبين أزقة الشام جعله يتنسّم عبق ذلك التاريخ الشامخ، الذي رسمت فيه الحوراء زينب (ع) شرارة التحدي وصيرورة الجهاد "كدْ كيدك" - للعدو - فإنك لن تمحو رسمنا..."ها نحن يا شام نعود إليك، ليس لدحر العدوان الإمبريالي – الرجعي – الوهابي- نحن عليه قادرون، وإنما إليك يا فلسطين سندخل فاتحين".. كان همّه الأوحد الالتحام في معركة الفصل مع الإسرائيلي، تماماً مثل والده. كلهم أحسوا به عماداً يقف بينهم، يوم ولي مسؤولية أحد المواقع وهو يقول لهم، وهو أصغرهم سناً، يمتشق سلاحه ويده على جعبته :" أنا أصغركم، صحيح، لست آمراً عليكم نهياً وتوجيهاً، أنا واحد منكم، ففي العمل المقاوم لا يقف العمر حائلاً بيني وبينكم، في العمل المقاوم كلنا عضد واحد، سلوني وناقشوني .. فأنتم جند صاحب العصر والزمان (عج) .. لا تستهينوا بمقدراتكم، فهي كامنة فيكم، لن تعرفوها إلا في الميدان ..". لله درّه من قائد يصوّب الإرشاد حيث يجب أن يكون.. يوم أتاه الحاج "خليل"، يشكو له ضغط العمل وجسامة المسؤولية التي ألقاها على كاهله، طالباً إعفاءه منها.. نظر إليه ملياً، وسأله سؤال العارف :"هل تعرّفت يوماً فن الإدارة؟".. تعجّب الرجل الأربعيني من سؤال "مسؤوله العشريني".. ولبث ساكتاً .. أخذ ورقة وقلما، وراح يدوّن بصمتٍ كان مدويا على الحاج خليل.. ماذا يكتب "جواد".. هل يخطّ قرار الاعفاء من مسؤولية ذلك الملف؟!.. خمس دقائق.. عشر دقائق.. مرّت و"جواد" يكتب، وخليل يتصبب عرقاً..وأخيراً رفع "القائد العشريني" رأسه ووقف متقدماً من صاحبه يربت على كتفه ويقول :"هذا برنامج أسبوعي، فيه تفصيل لمهماتك المطلوبة يوما بيوم.. وسأخصص لك أحد الأخوة ليكون معاونك..".. الحاج خليل يبلع ريقه، والعجب أوقفه عن الكلام والتعليق، لكنّ صوت "جواد" استمر صداّحاً في غرفة المكتب متابعاً :"وبعد اليوم لا أريد أن أسمع كلمة لا أقدر".. وأصبحا صديقين، وانتشر بين الشباب أن مسؤولهم "جواد"، مسؤول يقول وينفّذ..وهو أيضاً يحفّزهم، يمدّ لهم يد العون، "اختصر لي بكلمتين ما  مشكلتك تحديداً.."، قال له أحمد :"إني أفتقر لمبلغ من المال، فعائلتي...".. ولم يدعه يكمل، فتح حقيبته الخاصة، وأعطاه ما يحتاجه .."احتفظ بالأمر سراً بيننا".. ولكنّه جواد، وصاحب الجود، لا يمكنه إخفاء كرمه، فكان كأبيه .. لا يردّ للمجاهدين حاجة.. وإذا أراد ملاطفة أحدهم فإنه لا يقبل إلا أن يطعمه بيده.. كانوا بالنسبة إليه " كلكن متل بعض"..لا يفرّق بين مسؤول وعنصر، صارماً في أوامره، جواداً في تعامله.. وكان حالماً .. كأبيه، وهو يقف على بقعة تطل على الجولان السوري المحتل، أشار إلى أبي علي رضا في اتجاه محدد وهو يقول :"في هذا الاتجاه، هناك حيفا، حيث الحديقة البهائية الباهرة الجمال، سوف أطئها بقدمي هاتين وسوف أتنزّه هناك..".. لم يكتب لك يا جهاد أن تحقق هذه الأمنية بنفسك، ولكنك كنت القائد في استشهادك واستشهاد رفاقك على طريق الجولان .. نحو بوابة فلسطين .. كل فلسطين..

المصدر : موقع المنار / زينب الطحان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة