ألقيت هذه المداخلة في الاحتفال الذي اقيم في الجامعة الأمريكية في بيروت الأربعاء 28 أيار/ مايو 2014، تكريماً لعالم الاجتماع والأكاديمي اللبناني سمير خلف.

اخترت ان اكتب كلمتي باللغة العربية لسببين:

الأول، هو التذكير بأن لغة العرب كانت اللغة المعتمدة لتدريس العلوم في مطالع القرن الماضي في الجامعة الأمريكية في بيروت، وقد ترافق ذلك مع الجهد الخلاق الذي بذله روّاد النهضة من اجل تحديث اللغة العربية، أو «لغة العين» كما أحب أن اسميها، أقتداء بالخليل بن أحمد.

الثاني هو تأكيد ضرورة استرداد الجهد البحثي الذي يقوم به الأكاديميون العرب باللغة الإنكليزية الى لغتهم الأم، ففي ظل شبه غياب للمجلات الأكاديمية العربية، فإننا نشهد نزفا علميا يقود الى غربة المجتمع عن علمائه والعلماء عن ثقافتهم.

سألت صديقي سمير خَلف لماذا لم يُترجم كتابه الأول «بغاء في مجتمع متغير»، من الانكليزية الى العربية، علمًا بأنه الكتاب العلمي الوحيد الذي يعالج مسألة البغاء في ما يُطلق عليه خَلف اسم «المنطقة الحمراء» في بيروت، وما يعرفه الناس في لبنان تحت اسميه الحقيقيين اي «شارع المتنبي»، و»السوق العمومية»، فكان جوابه ملتبساً، وعزا الأمر الى عدم اهتمام دور النشر العربية في بيروت بالأمر!

ولأنني أعتقد أن من حق قراء العربية أن يقرأوا كتاباً يُذكّرهم بعلامات كبرى اندثرت في سياق الإعمار الذي أعقب نهاية الحرب الأهلية، فقد اخترت أن أتكلم عن هذا الكتاب، في سياق تكريم عالم اجتماع كبير وإشكالي، ترك بصمته في مؤلفات عدة نجحت في إثارة كثير من الأسئلة عن بيروت، من البرج الى شارع الحمرا، وراصدا آليات العنف في المجتمع اللبناني، التي صارت، للأسف، مقدمة للعنف الأكبر الذي يعيشه المشرق العربي في دوامة محاولات الشعوب التمرد على الاستبداد المستشري منذ أربعة عقود.

بدأت علاقتي بهذا الكتاب عندما قرأت احد فصوله مُترجماً الى العربية في مجلة»حوار»التي كان يصدرها الشاعر توفيق صايغ في بيروت. كنا تلامذة ثانويين مشغوفين بالحداثة الشعرية والمسرحية في لبنان، نقرأ الشعر الإنكليزي والفرنسي في مجلة «شعر»، ويسحرنا التزام سارتر ووجوديته في مجلة «الآداب»، نحفظ قصائد خليل حاوي وبدر شاكر السياب وأدونيس، ونكتشف الماركسية على إيقاع الثورات الطالبية التي اجتاحت العالم. وفجأة رأينا مع هذا الكتاب كيف امتدت الحداثة الى العلوم الاجتماعية، وكيف أن قراءة الروايات لم تعد تكفي لإكتشاف مجتمعاتنا، وأننا في واحدة من المرات النادرة أمام استخدام العلوم من اجل التعرّف الى البيئة التي نعيش فيها.

وعندما روى لي أحد زملائي السابقين في ثانوية الراعي الصالح، وكان طالباً في كلية الطب في الجامعة الأمريكية ويكبرني بخمسة أعوام، أنه شارك في تعبئة استمارات سمير خلف، أُصبت بالحسد وسألته اذا كان في إمكاني أن أشارك في اعمال مشابهة. سخر مني وقال إن ما قاموا به مع استاذهم كان عملا علمياً، وإن العلم يحتاج الى تدريب ومعرفة ولا علاقة له بفضول مراهق لا يجرؤ على زيارة «السوق العمومية» بمفرده، وإن عليّ الآن الاهتمام بدروسي.

لكن الحكاية لا تنتهي هنا، ففي سنة 1991، حين كان ربيع مروة ولينا الصانع بصدد إعداد رواية «رحلة غاندي الصغير» من أجل تقديمها على خشبة المسرح، قمنا بزيارة السوق العمومية، وكان كتاب سمير خلف دليلي إلى هذا العالم الذي اندثر بقبابه العثمانية، وذاكرته التي تختزن الرغبات. وتحت لافتة نيون كبيرة تترنح على شرفة مثقبة بالرصاص وكُتب عليها اسم «ماريكا»، وقفنا أمام الكاميرا، وانطلاقاً من صور خراب الشارع اخترنا ملصق المسرحية، كي يلائم شخصية أليس المومس التي تؤدي دور راوي الحكاية.

قرأت الكتاب عند صدوره بالإنكليزية عن منشورات خياط في بيروت في سنة 1965، وانتظرت أن يُترجم الى العربية، ولا أزال انتظر هذه الترجمة حتى يومنا هذا.

عدت إلى الكتاب مرة جديدة من أجل هذه الندوة، واكتشفت أنني أمام شهادة علمية نادرة، تجمع عمق التحليل إلى الموضوعية بلغة تقطع مع الوعظ الأخلاقي والإثارة، وتحطّم كثيراً من الصور النمطية، وتكتشف علامات أساسية في الهامش الاجتماعي اللبناني الذي يفضح المتن المغطى بالأكاذيب الأخلاقية.

دراسة جرى تنفيذها بطلب من مجلس المشاريع الكبرى لمدينة بيروت الذي موّلها، بهدف الوصول إلى استنتاجات عملية تتعلق بمستقبل الوسط التجاري، حيث تقع السوق العمومية خلف السرايا الصغيرة مباشرة.

عند إنجاز الدراسة كان يعيش في شارع المتنبي 207 عاهرات، 105 منهن يعشن في بيوت الدرجة الأولى، بينما يعيش 102 في بيوت صُنفت درجة ثانية، وقد أجاب على الاستمارة 130 مومساً. والمفاجيء ان العدد الأكبر من المومسات كان لبنانياً، يليه السوريات فالفلسطينيات، بخلاف الرأي الشائع أن مومسات «السوق» في أغلبيتهن، كُنّ يونانيات او مصريات.

يعود الفرق التصنيفي في الأساس الى أعمار المومسات التي كانت العامل الأساسي في تحديد أسعارهن، (متوسط اعمار الفئة الأولى هو 32.7 عاماً، بينما متوسط أعمار الفئة الثانية (39.4 عاماً) والمُذهل هو نسبة الكبيرات في السن من بينهن، (نسبة اللواتي تتراوح اعمارهن بين 40 و60 سنة هي 20.3٪) بحيث تبدو «السوق» وكأنها مزيج من مكان العمل والمأوى، وتتشكل كعزلة مفروضة على العاهرات تتحول بالتدريج إلى خيار مَن لا خيار له.

جرت المقابلات خلال ثمانية أسابيع في آب/ أغسطس وايلول/ سبتمبر 1963، 92 منها تمت في مستوصف الحي، حيث تخضع المومسات لفحوص طبية دورية، بينما جرت بقية المقابلات، اي 38 مقابلة، في الغرف الخاصة بالمومسات.

الأسئلة التي طرحتها الاستمارات تتعلق بالأصول الإجتماعية للفتيات، كيف دخلن ميدان الدعارة؟ ما موقفهن من المهنة؟ علاقاتهن بالآخرين داخل المهنة وخارجها، كيف يعشن؟…

تحليل الإجابات قاد الى تحطيم كثير من الأفكار السائدة عن المهنة، الا أن اقتصار الدراسة على الاستمارات، وعدم اقترابها من التحري عن الخلفيات، تركا فراغات كبيرة كان من المأمول أن تجيب عليها دراسات لاحقة.

كتاب يقوم على مبدأ واحد هو الاستمارة التي يجري تحليل معطياتها عبر المقارنة واستخلاص النتائج الإحصائية، من دون خلفية تاريخية وتحليل لتطور البغاء في لبنان واشكالياته. لذا تغيب جرائم فيكتور عوّاد التي هزت السوق العمومي واعدامه شنقا في سنة 1949، ولا يجري ربط واقع «معزل» شارع المتنبي بالبغاء في البيوت الخاصة، والذي اوصلته فضيحة عفاف في سنة 1957 إلى ذروته. كما لم تعاَلج الدعارة التي عمّت علب الليل، وحوّلت لقب «الفنانة» في الأمن العام اللبناني إلى مرادف للمومس.

كم تبدو استنتاجات سمير خلف واقتراحاته بريئة أمام انفجار الدعارة في بيروت ولبنان الآن. شارع المتنبي هُدم كله، الفتيات ذهبن إلى مصيرهن المجهول، لكن الدعارة اتخذت أشكالاً جديدة في زمن ما بعد الحداثة وتسيّد البترو دولار، بحيث صارت أخطبوطاً يمتد من السياحة الجنسية إلى العالم الافتراضي، ويحتلّ كثيراً من الفنادق وعلب الليل ويخضع لمنطق التصدير والاستيراد…

لكن السؤال الذي حيّرني ليس لماذا لم يشر خَلف الى اسم الشارع الذي جعل من شاعر العرب الأكبر غطاء لأقدم مهنة في التاريخ، وإنما هو عدم قدرتي على الوصول إلى سر اختيار هذا الإسم الكبير الذي كان عنوانا للفروسية وإعجاز البيان، كي يكون اسماً لشارع تقيم فيه بنات الخطأ، بحسب التسمية العثمانية للمومسات؟

واللافت أن حكاية المتنبي مع الشوارع التي تحمل اسمه مثيرة للريبة، من شارع في حماه كان سوقاً للأحذية، إلى شارع المكتبات الشهير في بغداد، إلى شوارع في القاهرة والرياض والكويت، وهي في أغلبها لا تمتّ بأي صلة لشاعر اللامية الشهيرة التي تحصّن خلفها أبو العلاء: «لك يا منازلُ في القلوب منازلُ».

زمن مضى، وشارع استسلم لخراب الحرب والإعمار، وذاكرة لبنانية مثقوبة بالإدمان على النسيان، لكن شارع المتنبي نجح في أن يتشكل كذاكرة ناقصة كتبها عالم اجتماع شاب اسمه سمير خلف.

  • فريق ماسة
  • 2014-06-02
  • 12985
  • من الأرشيف

البغاء في بيروت الستينات

ألقيت هذه المداخلة في الاحتفال الذي اقيم في الجامعة الأمريكية في بيروت الأربعاء 28 أيار/ مايو 2014، تكريماً لعالم الاجتماع والأكاديمي اللبناني سمير خلف. اخترت ان اكتب كلمتي باللغة العربية لسببين: الأول، هو التذكير بأن لغة العرب كانت اللغة المعتمدة لتدريس العلوم في مطالع القرن الماضي في الجامعة الأمريكية في بيروت، وقد ترافق ذلك مع الجهد الخلاق الذي بذله روّاد النهضة من اجل تحديث اللغة العربية، أو «لغة العين» كما أحب أن اسميها، أقتداء بالخليل بن أحمد. الثاني هو تأكيد ضرورة استرداد الجهد البحثي الذي يقوم به الأكاديميون العرب باللغة الإنكليزية الى لغتهم الأم، ففي ظل شبه غياب للمجلات الأكاديمية العربية، فإننا نشهد نزفا علميا يقود الى غربة المجتمع عن علمائه والعلماء عن ثقافتهم. سألت صديقي سمير خَلف لماذا لم يُترجم كتابه الأول «بغاء في مجتمع متغير»، من الانكليزية الى العربية، علمًا بأنه الكتاب العلمي الوحيد الذي يعالج مسألة البغاء في ما يُطلق عليه خَلف اسم «المنطقة الحمراء» في بيروت، وما يعرفه الناس في لبنان تحت اسميه الحقيقيين اي «شارع المتنبي»، و»السوق العمومية»، فكان جوابه ملتبساً، وعزا الأمر الى عدم اهتمام دور النشر العربية في بيروت بالأمر! ولأنني أعتقد أن من حق قراء العربية أن يقرأوا كتاباً يُذكّرهم بعلامات كبرى اندثرت في سياق الإعمار الذي أعقب نهاية الحرب الأهلية، فقد اخترت أن أتكلم عن هذا الكتاب، في سياق تكريم عالم اجتماع كبير وإشكالي، ترك بصمته في مؤلفات عدة نجحت في إثارة كثير من الأسئلة عن بيروت، من البرج الى شارع الحمرا، وراصدا آليات العنف في المجتمع اللبناني، التي صارت، للأسف، مقدمة للعنف الأكبر الذي يعيشه المشرق العربي في دوامة محاولات الشعوب التمرد على الاستبداد المستشري منذ أربعة عقود. بدأت علاقتي بهذا الكتاب عندما قرأت احد فصوله مُترجماً الى العربية في مجلة»حوار»التي كان يصدرها الشاعر توفيق صايغ في بيروت. كنا تلامذة ثانويين مشغوفين بالحداثة الشعرية والمسرحية في لبنان، نقرأ الشعر الإنكليزي والفرنسي في مجلة «شعر»، ويسحرنا التزام سارتر ووجوديته في مجلة «الآداب»، نحفظ قصائد خليل حاوي وبدر شاكر السياب وأدونيس، ونكتشف الماركسية على إيقاع الثورات الطالبية التي اجتاحت العالم. وفجأة رأينا مع هذا الكتاب كيف امتدت الحداثة الى العلوم الاجتماعية، وكيف أن قراءة الروايات لم تعد تكفي لإكتشاف مجتمعاتنا، وأننا في واحدة من المرات النادرة أمام استخدام العلوم من اجل التعرّف الى البيئة التي نعيش فيها. وعندما روى لي أحد زملائي السابقين في ثانوية الراعي الصالح، وكان طالباً في كلية الطب في الجامعة الأمريكية ويكبرني بخمسة أعوام، أنه شارك في تعبئة استمارات سمير خلف، أُصبت بالحسد وسألته اذا كان في إمكاني أن أشارك في اعمال مشابهة. سخر مني وقال إن ما قاموا به مع استاذهم كان عملا علمياً، وإن العلم يحتاج الى تدريب ومعرفة ولا علاقة له بفضول مراهق لا يجرؤ على زيارة «السوق العمومية» بمفرده، وإن عليّ الآن الاهتمام بدروسي. لكن الحكاية لا تنتهي هنا، ففي سنة 1991، حين كان ربيع مروة ولينا الصانع بصدد إعداد رواية «رحلة غاندي الصغير» من أجل تقديمها على خشبة المسرح، قمنا بزيارة السوق العمومية، وكان كتاب سمير خلف دليلي إلى هذا العالم الذي اندثر بقبابه العثمانية، وذاكرته التي تختزن الرغبات. وتحت لافتة نيون كبيرة تترنح على شرفة مثقبة بالرصاص وكُتب عليها اسم «ماريكا»، وقفنا أمام الكاميرا، وانطلاقاً من صور خراب الشارع اخترنا ملصق المسرحية، كي يلائم شخصية أليس المومس التي تؤدي دور راوي الحكاية. قرأت الكتاب عند صدوره بالإنكليزية عن منشورات خياط في بيروت في سنة 1965، وانتظرت أن يُترجم الى العربية، ولا أزال انتظر هذه الترجمة حتى يومنا هذا. عدت إلى الكتاب مرة جديدة من أجل هذه الندوة، واكتشفت أنني أمام شهادة علمية نادرة، تجمع عمق التحليل إلى الموضوعية بلغة تقطع مع الوعظ الأخلاقي والإثارة، وتحطّم كثيراً من الصور النمطية، وتكتشف علامات أساسية في الهامش الاجتماعي اللبناني الذي يفضح المتن المغطى بالأكاذيب الأخلاقية. دراسة جرى تنفيذها بطلب من مجلس المشاريع الكبرى لمدينة بيروت الذي موّلها، بهدف الوصول إلى استنتاجات عملية تتعلق بمستقبل الوسط التجاري، حيث تقع السوق العمومية خلف السرايا الصغيرة مباشرة. عند إنجاز الدراسة كان يعيش في شارع المتنبي 207 عاهرات، 105 منهن يعشن في بيوت الدرجة الأولى، بينما يعيش 102 في بيوت صُنفت درجة ثانية، وقد أجاب على الاستمارة 130 مومساً. والمفاجيء ان العدد الأكبر من المومسات كان لبنانياً، يليه السوريات فالفلسطينيات، بخلاف الرأي الشائع أن مومسات «السوق» في أغلبيتهن، كُنّ يونانيات او مصريات. يعود الفرق التصنيفي في الأساس الى أعمار المومسات التي كانت العامل الأساسي في تحديد أسعارهن، (متوسط اعمار الفئة الأولى هو 32.7 عاماً، بينما متوسط أعمار الفئة الثانية (39.4 عاماً) والمُذهل هو نسبة الكبيرات في السن من بينهن، (نسبة اللواتي تتراوح اعمارهن بين 40 و60 سنة هي 20.3٪) بحيث تبدو «السوق» وكأنها مزيج من مكان العمل والمأوى، وتتشكل كعزلة مفروضة على العاهرات تتحول بالتدريج إلى خيار مَن لا خيار له. جرت المقابلات خلال ثمانية أسابيع في آب/ أغسطس وايلول/ سبتمبر 1963، 92 منها تمت في مستوصف الحي، حيث تخضع المومسات لفحوص طبية دورية، بينما جرت بقية المقابلات، اي 38 مقابلة، في الغرف الخاصة بالمومسات. الأسئلة التي طرحتها الاستمارات تتعلق بالأصول الإجتماعية للفتيات، كيف دخلن ميدان الدعارة؟ ما موقفهن من المهنة؟ علاقاتهن بالآخرين داخل المهنة وخارجها، كيف يعشن؟… تحليل الإجابات قاد الى تحطيم كثير من الأفكار السائدة عن المهنة، الا أن اقتصار الدراسة على الاستمارات، وعدم اقترابها من التحري عن الخلفيات، تركا فراغات كبيرة كان من المأمول أن تجيب عليها دراسات لاحقة. كتاب يقوم على مبدأ واحد هو الاستمارة التي يجري تحليل معطياتها عبر المقارنة واستخلاص النتائج الإحصائية، من دون خلفية تاريخية وتحليل لتطور البغاء في لبنان واشكالياته. لذا تغيب جرائم فيكتور عوّاد التي هزت السوق العمومي واعدامه شنقا في سنة 1949، ولا يجري ربط واقع «معزل» شارع المتنبي بالبغاء في البيوت الخاصة، والذي اوصلته فضيحة عفاف في سنة 1957 إلى ذروته. كما لم تعاَلج الدعارة التي عمّت علب الليل، وحوّلت لقب «الفنانة» في الأمن العام اللبناني إلى مرادف للمومس. كم تبدو استنتاجات سمير خلف واقتراحاته بريئة أمام انفجار الدعارة في بيروت ولبنان الآن. شارع المتنبي هُدم كله، الفتيات ذهبن إلى مصيرهن المجهول، لكن الدعارة اتخذت أشكالاً جديدة في زمن ما بعد الحداثة وتسيّد البترو دولار، بحيث صارت أخطبوطاً يمتد من السياحة الجنسية إلى العالم الافتراضي، ويحتلّ كثيراً من الفنادق وعلب الليل ويخضع لمنطق التصدير والاستيراد… لكن السؤال الذي حيّرني ليس لماذا لم يشر خَلف الى اسم الشارع الذي جعل من شاعر العرب الأكبر غطاء لأقدم مهنة في التاريخ، وإنما هو عدم قدرتي على الوصول إلى سر اختيار هذا الإسم الكبير الذي كان عنوانا للفروسية وإعجاز البيان، كي يكون اسماً لشارع تقيم فيه بنات الخطأ، بحسب التسمية العثمانية للمومسات؟ واللافت أن حكاية المتنبي مع الشوارع التي تحمل اسمه مثيرة للريبة، من شارع في حماه كان سوقاً للأحذية، إلى شارع المكتبات الشهير في بغداد، إلى شوارع في القاهرة والرياض والكويت، وهي في أغلبها لا تمتّ بأي صلة لشاعر اللامية الشهيرة التي تحصّن خلفها أبو العلاء: «لك يا منازلُ في القلوب منازلُ». زمن مضى، وشارع استسلم لخراب الحرب والإعمار، وذاكرة لبنانية مثقوبة بالإدمان على النسيان، لكن شارع المتنبي نجح في أن يتشكل كذاكرة ناقصة كتبها عالم اجتماع شاب اسمه سمير خلف.

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة