دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
الأعوام الثلاثة التي مرّت على انفجار الأزمة السورية، كانت كفيلة بتحويل وجه محافظة ريف دمشق، على نحو جذري؛ من مدن وبلدات هادئة، متناثرة في الجهات الأربعة المحيطة بدمشق، إلى إحدى أبرز الجبهات العسكرية في سوريا
شكّلت محافظة ريف دمشق إحدى الجبهات الأساسية في الحرب الدائرة في سوريا، فقد حملت أهمية استثنائية بالنسبة للأطراف النزاع، كون تحولات المشهد فيها مارست، وتمارس، تأثيرات شبه مباشرة على الحياة العامة في العاصمة، المحاطة بأراضي هذه المحافظة من الجهات الأربعة. ريف دمشق هي ثاني المحافظات السورية التي دخلت على مسار الاحتجاج، بعد درعا (جنوباً).
فاجأ دخولها هذا الكثير من المتابعين؛ فمن محافظة مؤيدة تاريخياً للنظام السوري، تدين الشرائح الشعبية فيها، من فلّاحين وحرفيين، لمكتسبات «دولة البعث» ودورها الاجتماعي، إلى محافظة محتجّة يحمل أبنائها كثيراً من الاستياء تجاه الدولة، الناجم بدوره، بحسب المتابعين، عن «الانفتاح الاقتصادي» لحكومة ذلك الحين، والذي انعكست نتائجه في ريف دمشق بتراجع غير مسبوق للصناعات الحرفية، من جراء منافسة البضائع الأجنبية- التركية خصوصاً- لتلك المحلية، بعد التخلّي عن الإجراءات الحمائية لهذه الأخيرة، بالإضافة إلى استملاك الدولة لكثير من أراضي الغوطة الشرقية، ووادي بردى والقلمون، في الريف الشمالي.
وجد أبناء معظم مدن وبلدات ريف دمشق في أحداث درعا، 15 -3- 2011، فرصةً للتعبير عن الاستياء المتراكم، فكان «اعتصام دوما» الشهير، بتاريخ 25-3-2011، فاتحة الاحتجاجات في ريف دمشق، التي اتسعت رقعتها لاحقاً لتشمل معظم مدن وبلدات الريف. أولى البلدات التي تلت دوما في التظاهرات هي حرستا في الغوطة الشرقية، وحي القابون الدمشقي المجاور، والحجر الأسود والقدم جنوباً، وبرزة شمالاً، وداريا في الغوطة الغربية. قابلت أجهزة الأمن السوري معظم تلك الاحتجاجات بالعنف والاعتقال، فباتت دائرة الاحتجاجات تتسع أكثر فأكثر، ومعها دائرة العنف، «إلّا أن كلّ ذلك لم يؤثّر على الحياة العامة على نحوٍ كبير، كما هي الحال اليوم»، يقول حكمت سعدية، ناشط سابق في التظاهرات، «معظم التظاهرات كانت تنطلق أيام الجمعة، أمّا باقي الأيام فكانت الحياة طبيعية، لم تكن الحواجز منتشرة بعد، ولا الأعمال العسكرية. حتّى النشاط السياسي كان يجري بدون تعقيد، طبعاً في حال أخذ الحيطة والحذر من العيون».
«ثورة مسلّحة»... ونزوحات واسعة
سرعان ما تحوّلت الاحتجاجات السلمية إلى «ثورة» مسلّحة، في أواسط عام 2011، والبداية أيضاً من مدينة دوما، التي تعدّ المدينة الرئيسية في الغوطة الشرقية، إذ أُعلن عن تشكيل أول كتيبة مسلّحة في تاريخ 9 أيلول 2011، في اجتماع أداره شيخ من دوما، يدعى عبد الغفور درويش، مع عددٍ من الأشخاص الذين تحوّلوا لاحقاً إلى رموز لـ«الثورة المسلّحة»، منهم زهران العلوش، الذي يشغل اليوم منصب القائد العسكري لـ«الجبهة الإسلامية»، والذي كان قد خرج من سجن صيدنايا بموجب عفو عام، والشيخ سعيد درويش، وهو اليوم رئيس «الهيئة الشرعية للثورة السورية». وتشير بعض المصادر إلى أن العلوش كان قد سعى إلى تشكيل «سرية الإسلام» في حزيران 2011، إلّا أن المتابعين لم يلحظوا أي ظهور عسكري واضح لهذه الأخيرة. فعلياً، وفي مطلع عام 2012، بدأت عمليات «الجيش الحرّ»، أوّل تشكيل عسكري للمعارضة في سوريا، تظهر إلى العلن. الذريعة المباشرة لنشاطه العسكري في البداية كانت «حماية التظاهرات من عنف الأجهزة الأمنية»، إلّا أن «المشروع الفعلي لتشكيل هذا الجيش هو إيجاد سلطة بديلة عن الدولة الحالية»، يقول باسم رهواني، مقرّب من أوساط المسلّحين، لـ«الأخبار»، ويضيف: «بدا ذلك واضحاً في الهجوم على دوائر الدولة، وإحلال بنىً بديلة عنها. الانتقام والمظلومية كانتا عنواناً لتصفية وجود الدولة، حتّى بأبسط أشكاله، ابتداءً من المدارس ومروراً بدوائر الدولة المدنية وانتهاءً بالمؤسسة العسكرية». تصدرت المواجهات العسكرية بين الجيش السوري وبين المسلّحين المشهد، وتكاثرت تنظيمات المعارضة المسلّحة على نحوٍ كبير، وبالتوازي تعدّدت أهدافها، فمن «جيش حر» أو«ثوار»، إلى تنظيمات إسلامية بأسماء كثيرة، أبرزها «جيش الإسلام»، الذي طوره زعيمه، زهران العلوش، من سريّة إلى لواء، ثمّ إلى جيش ينضوي اليوم تحت إطار «الجبهة الإسلامية».
هذه التحوّلات العاصفة حالت دون إمكانية بقاء المدنيين داخل الكثير من مدن وبلدات ريف دمشق، ما أدى إلى موجات نزوح كبرى في الغوطة الشرقية بأكمله، وبرزة والقابون على أطراف دمشق الشرقية والشمالية؛ والقدم والعسالي والحجر الأسود ومخيّم اليرموك في الريف الجنوبي، أمّا القلمون ووادي بردى في الريف الشمالي فقد خرجتا بمعظمهما عن سيطرة الدولة، إلّا أن موجات النزوح فيهما كانت أضعف من مثيلاتها في بقية المناطق. وفي الغوطة الغربية، شهدت داريا، المدينة الأكبر فيها، مواجهة متأخرة نسبياً، أدّت إلى موجة نزوح شبه شاملة فيها. وهكذا أصبحت أبرز مدن وبلدات ريف دمشق خاوية تماماً، إلّا من أشباح المسلّحين ورهط قليل من السكّان الذين لا طاقة لهم على النزوح وأعبائه.
«دمشق الكبرى» و«درع العاصمة»
المواجهات في ريف دمشق تدور على نحوٍ مستمر، في كل يوم تندلع معركة لـ«تحرير» أو استعادة مدينة أو بلدة أو شارع أو حاجز، إلّا أن الدمشقيون وأبناء الريف يذكرون معركتين كبيرتين، تركتا أثراً عميقاً على حياة العاصمة والريف، معركة «تحرير دمشق الكبرى»، في أواسط الشهر السابع لعام 2012، يوم استجمعت المعارضة المسلّحة قواها في كلّ مناطق الريف وشنّت هجوماً على العاصمة دمشق، «وصل المسلّحون يومها إلى وسط حي الميدان، جنوبي دمشق، وإلى أطراف منطقة العباسيين شرقاً»، بحسب المصادر العسكرية. هذه المعركة استندت معنوياً إلى «انتصار» المعارضة المسلّحة في تفجير مبنى الأمن القومي الذي أودى بحياة قادة أمنيين كبار في دمشق. أثارت هذه المعركة قلق أشدّ المتفائلين، «الخوف من سقوط العاصمة بيد المسلّحين راود حتى أكثر رابطي الجأش»، يقول شاب موال، «دام هذا القلق خلال اليومين الذين تراجع خلالهما المسلّحون إلى مواقعهم السابقة، بعد فشلهم بتحقيق الهدف من تلك المعركة»، إلّا أن هذين اليومين حوّلا وجه كل مناطق ريف دمشق القريبة من العاصمة، من أحياء وبلدات عادية، إلى أخرى شبه مدمّرة، هذا فضلاً عن فقدان الأمان السابق في تلك المناطق، و ما رافقه من موجات نزوح كبيرة، قبيل وبعيد هذه المعركة.
عامٌ واحد على انقضاء «تحرير دمشق» كان كفيلاً بتغيير موازين القوى على نحو كبير، إذ أطلق الجيش عمليته الشهيرة «درع العاصمة»، استعاد بموجبها «العديد من بلدات ريف دمشق، وبالأخص الجنوبي، وتمكّن بواسطتها دحر المسلّحين غير مرّة في القلمون»، يقول مصدر عسكري. ويضيف: «منذ انطلاق هذه العملية، لم يسجّل المسلّحون أي نصر عسكري ثابت، الأمر الذي دفعهم على الاستقواء على المدنيين، مثلما فعلوا في عدرا العمالية».
المصالحات سبيلاً
بالرغم من تمكّن الجيش السوري من السيطرة على العديد من المدن والبلدات، لم يعلن أيّاً منها منطقة آمنة، والسبب، بحسب مصدر عسكري: «أن الانتصار العسكري لا يكفي لحل الأزمات المعيشية والسياسية لتلك المناطق، فقسم كبير منها خارج اختصاصات المؤسسّة العسكرية»، ويعدد المصدر بعضاً من تلك الأزمات: الإغاثة، والدور الاجتماعي والخدمي ومعالجة وضع الأقنية غير العسكرية بين الأهالي والمسلّحين، «من هنا تأتي ضرورة التسويات، فبدونها لا يمكن تثبيت أي انتصار؛ فلم تعود الحياة السورية المعهودة إلى البلدات التي سيطرنا عليها، خلا تلك التي شهدت مصالحات، إذ شكّلت عودة الأهالي بموجبها حلّا حقيقياً لمشكلة الأمان الشامل فيها». كان لنجاح نموذج المصالحة الأول في برزة، صدى واسع في مناطق أخرى: المعضمية، في الغوطة الغربية، والقابون شرقاً، وببيلا وبيت سحم ويلدا ومخيم اليرموك، في الريف الجنوبي، والزبداني ومضايا، شمالاً. ولا تزال المفاوضات تجري يومياً، على قدم وساق، بين الجيش السوري ووجهاء مناطق جديدة لإنجاز مصالحات فيها.
المصدر :
الأخبار/ليث الخطيب
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة