«لن يغادر المسيحيون أبداً الشرق الأوسط»... «نريد ضمانات لحماية مسيحيي سورية»... «لن يتمكن التطرف من إخلاء الشرق الأوسط من مسيحييه. عبارات برزت مؤخراً في الخطاب المسيحي بشكل عام، وفي الخطاب الروسي بشكل خاص.

في مطلع الشهر الحالي، أعربت وزارة الخارجية الروسية، في بيان، عن قلقها من قمع المسيحيين وطردهم من الشرق، مطالبة شركاءها في المنطقة بالتركيز على معالجة هذه المسألة ووضع حد لمعاناة المسيحيين.

هذه كانت البداية لسيل من المواقف المحذرة ممّا آل إليه وضع المسيحيين في الوطن العربي بشكل عام، وفي سوريا تحديداً، وقد تسارعت وتيرتها بعد التطورات الأخيرة التي شهدتها بلدة معلولا، والتي تزامن الاعتداء الثاني عليها مع زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الفاتيكان.

إلا ان اهتمام روسيا «الأرثوذوكسية» بمسيحيي سوريا ظهر جليّاً في الرسالة التي حملها «البريد الديبلوماسي» إلى وزارة الخارجية الروسية، تفيد بأن نحو 50 ألف مسيحيي سوري من سكان القلمون يطالبون بالحصول على الجنسية الروسية.

في هذه الرسالة، أكد المسيحيون السوريون أنهم، «للمرة الأولى منذ ولادة السيد المسيح»، يشعرون بأنهم فريسة للمعاناة والتعذيب والخطر، مشددين ــ في برقية المناجاة ــ على أنهم في الوقت ذاته يفضلون «الموت في مخيمات اللاجئين، وأنهم لن يتركوا أبداً الأرض التي مشى عليها المسيح».

حرّكت هذه الرسالة الإعلام الروسي، وشغلت الصحف والبرامج التلفزيونية، فضاهت في أهميتها فخر الإمبراطورية الروسية بعد تقدمها خطوة على شريكها الغربي مسجلة هدفاً في مرمى واشنطن على ملعب «جنيف 2».

هكذا تحولت «الإمبراطورية العظمى» إلى ملاذ لمسيحيي المشرق، كما في حالة طالبي الجنسية الروسية، ليس هرباً من الضرائب كما هي الحال مع الممثل الفرنسي جيرار دي بارديو، وإنما للحفاظ على هوية مسيحية يهددها «إرهاب النصرة والشريعة» في بلادها.

لكن بعيداً عن مسرح الأزمة السورية، ووراء كواليسه، هل روسيا مستعدة بالفعل لفتح ملف سوري موازٍ للملف السياسي، هو ملف المسيحيين؟ وماذا عن روابط روسيا بمسيحيي المنطقة بشكل عام؟ وهل تؤمن روسيا بأن ثمة مشروعاً هدفه تهجير المسيحيين من الشرق؟

ترى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أن المسيحية في خطر بمفهومها الواسع وأنها من أكثر الديانات المضطهدة في العالم. خلال زيارة قام بها مطران حلب بولس اليازجي لموسكو، في شهر تشرين الأول الماضي، أكد أن ضحايا الأزمة السورية المسلحة مسيحيون ومسلمون على حد سواء، إلا ان رئيس العلاقات بين الأديان في بطريركية موسكو الشماس ديميتري شافانوف أصر على أن «مسيحياً يقتل كل 5 دقائق دافعاً ثمن إيمانه» في انحاء العالم.

قلق الكنيسة الروسية له تبريره الخاص، فالعلاقات بين روسيا الأرثوذكسية وروسيا القيصرية من جهة، ومسيحيي الشرق من جهة ثانية، لطالما كانت وثاقاً جمع الطرفين في شراكة كان الجميع فيها على قدم المساواة، خلافاً لما كانت عليه الحال بين «مسيحيي المشرق» و«مسيحية الاستعمار».

من بين التحركات الكنسية في هذا الاتجاه، كان لقاء لبطريرك موسكو وعموم روسيا كيريل بالسفير العراقي في موسكو في نهاية الشهر الماضي، ذكّر البطريرك خلاله بمحطات من تاريخ العلاقات بشكل عام مشدداً على «ألم الكنيسة الروسية لما يعيشه العراق اليوم» هذا البلد الذي زاره البطريرك كيريل «ومرّ فيه على كامل نواحي حياة المسيحيين اليومية فيه».

وألقى كيريل خلال هذه الزيارة الضوء على المعاناة التي دفعت بغالبية المسيحيين إلى مغادرة البلاد مستعرضاً البيانات التي في حوزته: «على ما أذكر عند زيارتي كان في العراق حوالي مليون ونصف مليون مسيحي. أما اليوم، إن لم أكن مخطئاً، فلم يبق في العراق سوى 150 ألف مسيحي».

وكان هذا اللقاء فرصة جديدة لتعرب فيها الكنيسة الروسية عن قلقها تجاه مصير المسيحيين الذين، بحسب قول بطريرك موسكو وعموم روسيا، «يقتلون ويعذبون لمجرد أنهم مسيحيون».

وذهب قداسته إلى الغوص أكثر في تحليله لجغرافيا البلاد بعد هجرة المسيحيين قائلا: «غادر الكثير العراق خوفاً من شبح الموت، وأعلم بأن هذا الأمر غيّر الخريطة الثقافية للعراق، ما يعد كارثة حضارية لأن المسيحيين والمسلمين عاشوا طوال تاريخ البلاد جنباً إلى جنب».

بالعودة إلى القلق الروسي من أزمات الشرق الأوسط ومصير مسيحيي المشرق ــ على المستوى الكنسي وليس الرسمي ــ لا بد من الإشارة إلى حادثة صغيرة تميط اللثام عن كثير من الأمور.

في تموز الماضي، عرضت القناة الروسية الخامسة تقريراً عن أسرة قبطية فرّت من مصر هرباً مما وصفته باضطهاد المسيحيين، وحضرت إلى روسيا، إلى منطقة بيرم في جبال الأورال، طالبة اللجوء، مبررة ذلك بأن روسيا حريصة على مصير الأقلية المسيحية. غير أن هيئة الهجرة الفدرالية رفضت منح الأسرة اللجوء أو السماح لها بالدخول طارحة هذا الأمر الذي وصفه العديد بالمشين والنقطة السوداء على ورقة السياسة الروسية الجديدة.

وقد كان مراسل القناة، الذي بحث عن الأسرة، قال ان أملها الوحيد في إيصال صوتها إلى آذان المسؤولين الروس، وبشكل خاص إلى القائمين على أمور الكنيسة الروسية التي تطرح أكثر فأكثر التساؤلات حول مصير المسيحيين الوطن العربي.

هل تظهر هذه الحادثة تناقضاً بين إعلان الكنيسة وبين واقع التعامل مع المسيحيين؟

لا شك في أن روسيا حافظت خلال ابتعادها السياسي عن الشرق الأوسط، وطوال الفترة التي عانت فيها من تجمد على الساحة العربية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، على خيوط ثقافية مع هذه المنطقة من القارة الآسيوية. وكان الرابط المسيحي أحد أشد هذه الخيوط، وهو ما تجلّى بنشاط كثيف لـ«الجمعية الامبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية» التي بلغت العام الماضي عامها الـ 130، بينما كان آخر نشاطاتها، الشهر الماضي، افتتاح متحف «فلسطين الروسية» في موسكو. وقد حافظت هذه الجمعية، طوال هذه الفترة، على جسر من العلاقات بين روسيا والأراضي المقدسة أو بلاد الكتاب المقدس. وكان افتتاح هذا المتحف مناسبة أعلن خلالها رئيس الجمعية نيكولاي ليسوفوي أن «روسيا تعود إلى الأرض المقدسة».

إذاً، ما الذي يمنع روسيا القلقة على مصير المسيحيين في الشرق الأوسط من استقبال اللاجئين منهم؟

بغض النظر عن حقيقة موقف الكنيسة أو الموقف الرسمي من تطورات الأوضاع في سوريا، وحالة المسيحيين بشكل خاص، يمكن القول إنه إلى جانب صرامة وزارة الخارجية في التأكيد على ضمان سلامة المسحيين، وألم الكنيسة من اضطهادهم، فقد بدأ الإعلام الروسي يولي اهتماماً خاصا لأوضاع المسيحيين في الشرق الأوسط وهي: أوضاع الأقباط تحت المجهر ورهن المراقبة، مسيحيو العراق أساس لكتب ودراسات بحثية وعملية، أما مسيحيو سوريا فباتوا الهم الأول والأقوى في صفحات الصحف الروسية والموقع الالكتروني للكنيسة الأرثوذكسية الروسية.

وفي خضم الألم، تمكن الإعلام الروسي من التقاط لحظة ايجابية في هذه المحطة المؤلمة من تاريخ المنطقة: أيكون «الربيع العربي» ربيعاً حقيقيا للكنائس المسيحية؟

  • فريق ماسة
  • 2013-12-23
  • 6811
  • من الأرشيف

روسيا والقلق على مسيحيي الشرق

«لن يغادر المسيحيون أبداً الشرق الأوسط»... «نريد ضمانات لحماية مسيحيي سورية»... «لن يتمكن التطرف من إخلاء الشرق الأوسط من مسيحييه. عبارات برزت مؤخراً في الخطاب المسيحي بشكل عام، وفي الخطاب الروسي بشكل خاص. في مطلع الشهر الحالي، أعربت وزارة الخارجية الروسية، في بيان، عن قلقها من قمع المسيحيين وطردهم من الشرق، مطالبة شركاءها في المنطقة بالتركيز على معالجة هذه المسألة ووضع حد لمعاناة المسيحيين. هذه كانت البداية لسيل من المواقف المحذرة ممّا آل إليه وضع المسيحيين في الوطن العربي بشكل عام، وفي سوريا تحديداً، وقد تسارعت وتيرتها بعد التطورات الأخيرة التي شهدتها بلدة معلولا، والتي تزامن الاعتداء الثاني عليها مع زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الفاتيكان. إلا ان اهتمام روسيا «الأرثوذوكسية» بمسيحيي سوريا ظهر جليّاً في الرسالة التي حملها «البريد الديبلوماسي» إلى وزارة الخارجية الروسية، تفيد بأن نحو 50 ألف مسيحيي سوري من سكان القلمون يطالبون بالحصول على الجنسية الروسية. في هذه الرسالة، أكد المسيحيون السوريون أنهم، «للمرة الأولى منذ ولادة السيد المسيح»، يشعرون بأنهم فريسة للمعاناة والتعذيب والخطر، مشددين ــ في برقية المناجاة ــ على أنهم في الوقت ذاته يفضلون «الموت في مخيمات اللاجئين، وأنهم لن يتركوا أبداً الأرض التي مشى عليها المسيح». حرّكت هذه الرسالة الإعلام الروسي، وشغلت الصحف والبرامج التلفزيونية، فضاهت في أهميتها فخر الإمبراطورية الروسية بعد تقدمها خطوة على شريكها الغربي مسجلة هدفاً في مرمى واشنطن على ملعب «جنيف 2». هكذا تحولت «الإمبراطورية العظمى» إلى ملاذ لمسيحيي المشرق، كما في حالة طالبي الجنسية الروسية، ليس هرباً من الضرائب كما هي الحال مع الممثل الفرنسي جيرار دي بارديو، وإنما للحفاظ على هوية مسيحية يهددها «إرهاب النصرة والشريعة» في بلادها. لكن بعيداً عن مسرح الأزمة السورية، ووراء كواليسه، هل روسيا مستعدة بالفعل لفتح ملف سوري موازٍ للملف السياسي، هو ملف المسيحيين؟ وماذا عن روابط روسيا بمسيحيي المنطقة بشكل عام؟ وهل تؤمن روسيا بأن ثمة مشروعاً هدفه تهجير المسيحيين من الشرق؟ ترى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أن المسيحية في خطر بمفهومها الواسع وأنها من أكثر الديانات المضطهدة في العالم. خلال زيارة قام بها مطران حلب بولس اليازجي لموسكو، في شهر تشرين الأول الماضي، أكد أن ضحايا الأزمة السورية المسلحة مسيحيون ومسلمون على حد سواء، إلا ان رئيس العلاقات بين الأديان في بطريركية موسكو الشماس ديميتري شافانوف أصر على أن «مسيحياً يقتل كل 5 دقائق دافعاً ثمن إيمانه» في انحاء العالم. قلق الكنيسة الروسية له تبريره الخاص، فالعلاقات بين روسيا الأرثوذكسية وروسيا القيصرية من جهة، ومسيحيي الشرق من جهة ثانية، لطالما كانت وثاقاً جمع الطرفين في شراكة كان الجميع فيها على قدم المساواة، خلافاً لما كانت عليه الحال بين «مسيحيي المشرق» و«مسيحية الاستعمار». من بين التحركات الكنسية في هذا الاتجاه، كان لقاء لبطريرك موسكو وعموم روسيا كيريل بالسفير العراقي في موسكو في نهاية الشهر الماضي، ذكّر البطريرك خلاله بمحطات من تاريخ العلاقات بشكل عام مشدداً على «ألم الكنيسة الروسية لما يعيشه العراق اليوم» هذا البلد الذي زاره البطريرك كيريل «ومرّ فيه على كامل نواحي حياة المسيحيين اليومية فيه». وألقى كيريل خلال هذه الزيارة الضوء على المعاناة التي دفعت بغالبية المسيحيين إلى مغادرة البلاد مستعرضاً البيانات التي في حوزته: «على ما أذكر عند زيارتي كان في العراق حوالي مليون ونصف مليون مسيحي. أما اليوم، إن لم أكن مخطئاً، فلم يبق في العراق سوى 150 ألف مسيحي». وكان هذا اللقاء فرصة جديدة لتعرب فيها الكنيسة الروسية عن قلقها تجاه مصير المسيحيين الذين، بحسب قول بطريرك موسكو وعموم روسيا، «يقتلون ويعذبون لمجرد أنهم مسيحيون». وذهب قداسته إلى الغوص أكثر في تحليله لجغرافيا البلاد بعد هجرة المسيحيين قائلا: «غادر الكثير العراق خوفاً من شبح الموت، وأعلم بأن هذا الأمر غيّر الخريطة الثقافية للعراق، ما يعد كارثة حضارية لأن المسيحيين والمسلمين عاشوا طوال تاريخ البلاد جنباً إلى جنب». بالعودة إلى القلق الروسي من أزمات الشرق الأوسط ومصير مسيحيي المشرق ــ على المستوى الكنسي وليس الرسمي ــ لا بد من الإشارة إلى حادثة صغيرة تميط اللثام عن كثير من الأمور. في تموز الماضي، عرضت القناة الروسية الخامسة تقريراً عن أسرة قبطية فرّت من مصر هرباً مما وصفته باضطهاد المسيحيين، وحضرت إلى روسيا، إلى منطقة بيرم في جبال الأورال، طالبة اللجوء، مبررة ذلك بأن روسيا حريصة على مصير الأقلية المسيحية. غير أن هيئة الهجرة الفدرالية رفضت منح الأسرة اللجوء أو السماح لها بالدخول طارحة هذا الأمر الذي وصفه العديد بالمشين والنقطة السوداء على ورقة السياسة الروسية الجديدة. وقد كان مراسل القناة، الذي بحث عن الأسرة، قال ان أملها الوحيد في إيصال صوتها إلى آذان المسؤولين الروس، وبشكل خاص إلى القائمين على أمور الكنيسة الروسية التي تطرح أكثر فأكثر التساؤلات حول مصير المسيحيين الوطن العربي. هل تظهر هذه الحادثة تناقضاً بين إعلان الكنيسة وبين واقع التعامل مع المسيحيين؟ لا شك في أن روسيا حافظت خلال ابتعادها السياسي عن الشرق الأوسط، وطوال الفترة التي عانت فيها من تجمد على الساحة العربية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، على خيوط ثقافية مع هذه المنطقة من القارة الآسيوية. وكان الرابط المسيحي أحد أشد هذه الخيوط، وهو ما تجلّى بنشاط كثيف لـ«الجمعية الامبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية» التي بلغت العام الماضي عامها الـ 130، بينما كان آخر نشاطاتها، الشهر الماضي، افتتاح متحف «فلسطين الروسية» في موسكو. وقد حافظت هذه الجمعية، طوال هذه الفترة، على جسر من العلاقات بين روسيا والأراضي المقدسة أو بلاد الكتاب المقدس. وكان افتتاح هذا المتحف مناسبة أعلن خلالها رئيس الجمعية نيكولاي ليسوفوي أن «روسيا تعود إلى الأرض المقدسة». إذاً، ما الذي يمنع روسيا القلقة على مصير المسيحيين في الشرق الأوسط من استقبال اللاجئين منهم؟ بغض النظر عن حقيقة موقف الكنيسة أو الموقف الرسمي من تطورات الأوضاع في سوريا، وحالة المسيحيين بشكل خاص، يمكن القول إنه إلى جانب صرامة وزارة الخارجية في التأكيد على ضمان سلامة المسحيين، وألم الكنيسة من اضطهادهم، فقد بدأ الإعلام الروسي يولي اهتماماً خاصا لأوضاع المسيحيين في الشرق الأوسط وهي: أوضاع الأقباط تحت المجهر ورهن المراقبة، مسيحيو العراق أساس لكتب ودراسات بحثية وعملية، أما مسيحيو سوريا فباتوا الهم الأول والأقوى في صفحات الصحف الروسية والموقع الالكتروني للكنيسة الأرثوذكسية الروسية. وفي خضم الألم، تمكن الإعلام الروسي من التقاط لحظة ايجابية في هذه المحطة المؤلمة من تاريخ المنطقة: أيكون «الربيع العربي» ربيعاً حقيقيا للكنائس المسيحية؟

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة