دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
إذا أردنا أن نعرف ما إذا كان الاتفاق الذي جرى التوصل إليه فجر اليوم بين الدول الست العظمى وإيران حول طموحات الأخيرة النووية جيدا أو سيئا، فإن علينا ان نرصد ردود الفعل الأولى تجاهه في كل من تل أبيب والرياض.
ليس من عادة المسؤولين السعوديين الرد بسرعة على الأحداث السياسية، ويفضلون دائما التريث، ولكن من غير المتوقع أن يكونوا ممنونين لتوقيع هذا الاتفاق الذي يشكل صدمة بالنسبة إليهم، وهم الذين هيئوا جبهتهم الداخلية طوال الأعوام الأربعة الماضية لحرب مع إيران، وتصعيدها إلى رأس قائمة الأعداء واستخدام الخلاف المذهبي معها أرضية للتحريض ضدها، والدول الحليفة لها.
بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل كان أكثر وضوحا عندما فتح سرادق للعزاء في قلب القدس المحتلة، وبدأ يستقبل المعزين، فمنذ اللحظة الأولى أعلن أن هذا الاتفاق “خطأ تاريخي” بينما قال وزير خارجيته افيغدور ليبرمان انه “خطر” على إسرائيل، وبدأ الحديث عن قدرة إيران على امتلاك قنابل قذرة تسرب إلى “الإرهابيين”.
بموازين الربح والخسارة يمكن ان نقول وبكل ثقة، أن إيران التي “دوخت” المفاوضين الغربيين، ولعبت على أعصابهم من خلال إدارتها لتعجلهم، والأمريكي منهم على وجه الخصوص، للتوصل إلى اتفاق، خرجت هي الرابح الأكبر، لأنها رسخت حقها في تخصيب اليورانيوم على أرضها، ولم تتنازل عن هذا الحق حتى اللحظة الأخيرة.
علينا أن نتذكر أن الأزمة بين إيران والغرب بدأت قبل عشر سنوات تخللتها حشود عسكرية، وتهديدات بالحرب، بسبب إقدام إيران على تخصيب اليورانيوم بدرجة اقل من خمسة في المئة، والتشكيك في نواياها من هذا التخصيب، أي أن الأزمة لم تكن بسبب نسبة التخصيب، وإنما مبدأ التخصيب نفسه، والاتفاق “شرعن” هذا المبدأ من قبل الدول العظمى.
جون كيري وزير الخارجية الأمريكي قال إن الاتفاق مؤقت، وأن النص لا يقول أن لإيران الحق في تخصيب اليورانيوم، وهذا صحيح، ولكن الاتفاق لم يقل أيضا بأنه محرم عليها التخصيب، مضافا إلى ذلك أن جميع الاتفاقات المؤقتة تتحول إلى دائمة، وعلمنا التاريخ انه عندما تبدأ المفاوضات فإنها لا تتوقف، وان توقفت فلفترة مؤقتة.
هناك عدة نقاط يجب التوقف عندها عند إجراء دراسة سريعة للاتفاق ومواقف الدول المختلفة منه:
*أولا: حالة العداء التي استمرت ثلاثين عاما بين إيران والغرب باتت شبه منتهية، وان الغرب على وشك الاعتراف بإيران قوة إقليمية عظمى يجب تقاسم النفوذ معها في منطقة الشرق الأوسط.
*ثانيا: فشلت إسرائيل فشلا ذريعاً في منع تخصيب إيران لليورانيوم، مثلما فشلت في منع اتفاقها مع الدول العظمى، وهذا يعني تراجع إسرائيل وتقدم إيران في الحسابات الغربية.
*ثالثا: نجحت إيران في تأسيس “مدرسة” جديدة في علم التفاوض، عندما صمدت في مسابقة “عض الأصابع″ فلم تتنازل مطلقا عن خطوطها الحمر، وان قدمت تنازلا ففي الهوامش ونسب التخصيب.
*رابعا: حافظت إيران على إبقاء وسلامة جميع منشآتها النووية بما في ذلك أجهزة التخصيب (الطرد المركزي) وباتت تجمع بين أهم طريقين في عملية تخصيب اليورانيوم للحصول على البلوتونيوم اللازم لصنع قنابل نووية، الأولى استخدام الماء الثقيل مثلما هو جار في مفاعل آراك، والثاني تخصيب اليورانيوم من خلال اجهزة الطرد المركزي في مفاعلي قم وناتانز، الهند أنتجت قنبلتها بالطريقة الأولى وباكستان بالثانية، والأهم من ذلك أن العلماء والعقول الإيرانية باقية ومستعدة لمواصلة عملها في أي لحظة، هذا إذا لم تكن مستمرة.
*خامسا: الاتفاق وما نص عليه من تخفيف للعقوبات، سيؤدي إلى تعاف تدريجي للاقتصاد الإيراني، وسيبعث الأمل في نفوس الإيرانيين، حيث انخفضت قيمة الريال نسبة 60 بالمئة، ووصلت البطالة إلى 50 بالمئة بين الشباب، ومعدلات التضخم إلى خمسين في المئة أيضا، وبمجرد الإعلان عن الاتفاق تهاوى سعر الدولار أمام العملة المحلية وسادت حالة من الارتياح، ومن المتوقع أن يرتفع الإنتاج القومي الإيراني من 480 مليار دولار حاليا إلى 900 مليار دولار في سنوات معدودة أي ما يوازي الإنتاج القومي التركي.
العرب، والخليجيون منهم على وجه التحديد، ونحن نتحدث هنا عن أنظمة وليس شعوبا، هم الخاسر الأكبر من هذا الاتفاق، فقد تخلت عنهم أمريكا والغرب، بعد أن سرقت أموالهم في صفقات أسلحة تزيد عن 130 مليار دولار، بعد أن ضخمت من الخطر الإيراني لتصعيد مخاوفهم، ودفعتهم للوقوف موقف المعادي من إيران وكل معتنقي المذهب الشيعي تقريبا.
السؤال هو عن الاستراتيجية التي يمكن أن يتبعها هؤلاء في مواجهة هذا التحول الاستراتيجي في موازين القوى في المنطقة وتحالفاتها؟
ناسف أن نقول انه لا توجد استراتيجية ولا يحزنون، فالدول الثلاث التي كانت تحقق التوازن الاستراتيجي في المنطقة أي العراق وسورية ومصر دمرها العرب، وحكام دول خليجية بالذات من خلال قبولهم بأن يكونوا أدوات في السياسة الخارجية الأمريكية ومصالحها في المنطقة، فالعراق يعيش حربا أهلية بعد إطاحة نظامه العربي الذي حارب إيران ثماني سنوات ونظام العراق الحالي موال لإيران، وسورية تشهد حربا بالإنابة على أرضها بين السنة بزعامة سعودية والشيعة بزعامة إيران، أما مصر فمقسمة بين نظام عسكري تدعمه السعودية والإمارات، وحركة إخوان مسلمين “سنية” تقول إنها صاحبة الشرعية وتدعمها قطر.
العرب يتقاتلون على أرضهم، ويمزقون أركانهم الإستراتيجية ويغرقون المنطقة في الحروب الأهلية الطائفية، فهل هؤلاء يستطيعون وضع استراتيجيات لحرب إيران أو حتى منافستها، وبعد أن ألقى بهم الحليف الأمريكي في سلة المهملات؟ لا اعتقد ذلك.
نقطة التحول الرئيسية التي أدت إلى توقيع هذا الاتفاق وقلب المعادلات الراسخة في المنطقة، هو أن أمريكا تشعر بالقرف من العرب والإسرائيليين معا، وقررت تغيير سياستها الخارجية والكف عن خوض الحروب بالنيابة عنهم، وأول قرار في هذا الصدد هو التطبيع السياسي مع إيران بعد ثلاثين عاما من العداء، مضافا إلى ذلك أن جميع حروبها في الشرق الأوسط التي ورطها فيها العرب والإسرائيليون انتهت إلى كوارث، ولم تحل المشكلة التي ذهبت من اجلها بل خلقت مشاكل اكبر لأمنها واقتصادها، وانظروا ما حدث في أفغانستان والعراق وليبيا وما يحدث حاليا في السعودية.
العرب يحتاجون إلى مراجعة جذرية لكل أخطائهم، ومرة أخرى نقول إننا نتحدث عن حكام منطقة الخليج الذين يهيمنون حاليا بمالهم على القرار العربي، مراجعة تعترف بالواقع الجديد ومتغيراته، وتبدأ في وضع خطة طويلة المدى لإعادة العرب على الخريطتين الإقليمية والدولية بقوة، ليس كمشترين لأسلحة لا تستخدم وإنما لتصنيعها، وبناء مشاريع القوة السياسية والعسكرية، والكف عن سياسة المناكفات، مثلما هو حادث بين السعودية وقطر حاليا، ورصد عشرات المليارات في هذا الصدد.
العرب أصابتهم عدوى إدارة الرئيس بوش، أي أصبحوا خبراء في التخريب، اي تخريب دولهم، والعجز عن البناء، أي بناء قوتهم، مثلما أصبحوا متميزين في خلق الأعداء دون أن يملكوا أسباب القوة لمواجهتهم.
حتى تتم هذه المراجعة الاستراتيجية، لا بد أن يعترف العرب بإيران قوة إقليمية عظمى ويتعاطوا معها على هذا الأساس، ويتحاورون معها تماما مثلما فعلت أمريكا والغرب.
المصدر :
الماسة السورية
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة