دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
منذ ما يزيد على سنتين ترسل السعودية إشارات انزعاج الى واشنطن من سياساتها في الشرق الاوسط: بداية من تخليها عن أنظمة حليفة سقطت بفعل الحراك الشعبي عام 2011 ( في مقدمها نظام الرئيس حسني مبارك في مصر)، مروراً باعترافها بأنظمة بديلة تقودها جماعة الاخوان المسلمين، وصولا الى الإعراض عن توجيه توجيه ضربة عسكرية لسوريا بفعل التوازن الدولي والاقليمي السائد، وإعطاء فرصة لمقاربة جديدة للملف النووي الايراني. لكن تباعد المواقف والسياسات لم يعد سراً يحتمل الكتمان بالنسبة للرياض التي باتت تؤثر توجيه رسائل احتجاجية علنية على "إدارة الظهر" الاميركي للمملكة و"التخلي عنها" في منتصف طريق تحيط به العواصف من كل جانب.
ارتبطت السعودية منذ عقود بعلاقات وثيقة للغاية مع الولايات المتحدة ظهرت خصوصا في المجالات التالية:
- حماية الاقتصاد الاميركي من تقلبات سوق النفط إنتاجاً وتسعيراً، ظهر ذلك أيام الحرب العراقية – الايرانية وفي مراحل لاحقة أخرى. حتى لقد تولت المملكة ضخ كميات من النفط تفوق حصتها المقررة في منظمة "أوبك" للتعويض عن النقص في السوق نتيجة العقوبات الاميركية على ايران او تقلـّص انتاج العراق في الثمانينيات والتسعينيات او لدفع الأسعار نزولاً لتضييق الخناق على إيران التي تعتمد على صادرات النفط لتوفير احتياطي نقدي استراتيجي (وصل سعر برميل النفط أيام الحرب العراقية- الايرانية الى نحو عشرة دولارات بفعل تعويم السوق).
- إقامة شراكة في المجال الأمني ترمي الى التعاون في مواجهة الأعداء المشتركين. وينوه المسؤولون الاميركيون بالمعلومات الاستخبارية التي قدمتها السعودية في مواجهة تنظيم القاعدة. ومن تجليات هذا التعاون ايضا اقامة قاعدة سرية لوكالة الاستخبارات الاميركية على الارض السعودية تتولى توجيه غارات الى اليمن. ويقال ان هذه القاعدة اقيمت في العام 2011، ما يدل على ان خلافات الجانبين السياسية لم توقف حتى الآن مفعول هذه الشراكة الامنية.
- التعاون في ملفات اقليمية عدة، خصوصاً في التعامل مع ايران وسوريا وحركات المقاومة وفي مقدمها حزب الله وحركة حماس. كما تعاون الجانبان في ترتيبات اقليمية مثال التسوية التي تم التوصل اليها في اليمن ودفعت الرئيس علي عبدالله صالح الى التنحي لمصلحة نائبه عبد ربه منصور هادي، وكان للسعودية جهد كبير في هذا المجال بفعل تأثيرها على الساحة اليمنية. وحملت السعودية من قبلُ لواء "المبادرة العربية للسلام" التي طرحها الملك عبدالله يوم كان ولياً للعهد عام 2002، وهو تطور كان من الممكن ان يفتح باباً لإنهاء الصراع العربي- الاسرائيلي.
تغيرات في العلاقة الاستراتيجية:
لكن السعودية التي كانت تـُعتبر – وفق المنظور الاميركي- إحدى ركائز الاستقرار في الشرق الاوسط لم تعد كذلك بالمقدار نفسه، بسبب التحولات الكبيرة التي يشهدها العالم ومعه المنطقة. وحصل تصدع في العلاقات الثنائية بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، عندما حمّلت الولايات المتحدة السعودية مسؤولية أدبية عن ضلوع عدد كبير من مواطنيها بتلك الهجمات، ثم طالبتها بإصلاحات سياسية وتعليمية من شأنها تجفيف دوافع الإرهاب. واتسعت الهوة لاحقاً عندما غزت أميركا العراق عام 2003، فالسعودية التي كانت تأمل ان يؤدي زوال تهديد نظام صدام حسين الى توجيه رسالة حازمة الى ايران وسوريا، جارتي العراق، هالها ان ترى ايران قد عززت علاقاتها بالعراق سياسيا واقتصاديا، فرأت الأمر على انه تسليم لهذا البلد "هدية الى ايران"، وفق تعبير وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل. وظهرت فرصة في ترميم الخلل في تناسق العلاقات السعودية – الاميركية بعد التطورات التي شهدها لبنان عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من هذا البلد، ثم ابان الحرب الاسرائيلية على لبنان عام 2006 بهدف ايجاد أرضية لـ"شرق أوسط جديد". لكن ذلك لم يدم طويلاً بسبب استعداد الاميركي لحزم حقائبه ومغادرة العراق وأفغانستان، تاركاً أعباء كبيرة على عاتق السعودية التي لم تخرج بعد من سياسة المواجهة مع ايران.
واذا كانت العلاقات الاميركية – السعودية قد مرت بحالة من الفتور خلال الولاية الاولى لجورج بوش الابن، فان عهد باراك اوباما لم يشهد الكثير من محاولات إنعاش العلاقات باستثناء استمرار تدفق صادرات النفط السعودية والخليجية الى الولايات المتحدة والغرب وإبرام صفقات تسلح ضخمة. وثمة عوامل تدفع الولايات المتحدة الى مراجعة أولوياتها وترتيب قائمة تحالفاتها استناداً الى الآتي:
- تراجع الاهتمام بمنطقة الشرق الاوسط والاستدارة باتجاه مناطق اخرى في العالم بما يتناسب مع مستجدات التنافس بين القوى العالمية، ونلاحظ في هذا المجال القرار الاستراتيجي الذي اتخذته القيادة الاميركية بنقل قسم مهم من قواتها العسكرية الى شرق آسيا في مواجهة الصين بحلول العام 2025، وبروز اتجاه غير واضح المعالم لشراكة روسية – اميركية في الشرق الاوسط في هذه المرحلة الانتقالية.
- توقعات بتخفيف الاعتماد على نفط الشرق الاوسط في ضوء اكتشاف مخزون وافر من الزيت الصخري في الولايات المتحدة، بما يحقق حلماً لطالما راود القادة الاميركيين بإنهاء التبعية في مجال الطاقة او تقليصها في الحد الأدنى.
- ظهور مخاطر الارهاب من جديد، لا سيما في ضوء تشكل بيئات مناسبة لذلك في ليبيا ومالي وسوريا وسيناء، إضافة الى العراق واليمن والصومال.
- الإنغماس في المشاكل الاميركية الداخلية بسبب الوضع الاقتصادي المتأزم ( تجاوز سقف الدين العام الاميركي سقف 17 الف مليار دولار) واحتدام الصراع الحزبي حول خيارات داخلية عدة، معطوفاً على ظهور تيارات سياسية متطرفة مثل تيار "حزب الشاي" الذي يرفض العديد من سياسات اصلاح النظام. وكانت ازمة الديون الاخيرة مؤشراً على "أزمة قيادة" تعيشها الولايات المتحدة ومبعث قلق عميق لدول عدة، ومنها الصين وروسيا، بدأت تحسب حسابها لمستقبل الارتباط بالعملة الاميركية والاقتصاد الاميركي. ومن المعلوم ان الدول التي تضعف من داخلها يصعب عليها ان تكون قوية في الخارج، ومن هنا ينطلق الحديث عن "أفول" القوة الاميركية على الصعيد الدولي.
لذلك كله وغيره، تتراجع الروابط الاميركية- السعودية القوية، لكنها ستبقى ذات قيمة حيوية الى حين، في ضوء استمرار حاجة الولايات المتحدة الى نفط السعودية ومكانتها الدينية - السياسية وتعاونها في المجال الامني.
السعودية وسياسة المواجهة:
مع ذلك، تشعر الرياض بشيء من "التخلي" الاميركي عنها، ويبدو واضحاً انها قررت ان لا تنتظر واشنطن للدفاع عن مصالحها، فأخذت المبادرة في اتجاهات عدة:
- دعم عملية الاطاحة بحكم "الاخوان المسلمين" في مصر ودول عربية عدة، لأنها تنظر الى الجماعة على انها خطر داخلي، ويلاحظ تعاطف من اوساط سعودية مع "الاخوان" في مصر.
- منع أي تغيير للوضع في البحرين بما فيه إقرار اصلاحات دستورية، خشية ان ينسحب ذلك على المملكة.
- رفض أية جهود تؤدي الى اقرار تسوية للحرب في سوريا تـُبقي على النظام الحالي ولو لبعض الوقت. وتنظر الرياض الى سوريا على انها الساحة التي قد تتيح لها تعزيز نفوذها الاقليمي وقلب الطاولة على ايران وحلفائها. وتدفع السعودية بجماعات موالية لها الى تصعيد القتال في سوريا، لدفع واشنطن الى اعادة التفكير بسياستها الحالية التي تميل الى تفاهم مع روسيا على العمل لحل الازمة سلميا.
- القيام بضغوط علنية وسرية على الادارة الاميركية لمنع التقارب مع ايران وحل مسألة البرنامج النووي الايراني. وظهرت اشارات انزعاج مبكرة من السعودية قبل نحو عام حين لوح مدير الاستخبارات السعودية السابق تركي الفيصل بأن بلاده ستعمل لحيازة برنامج نووي خاص في حال تم الاعتراف بحق ايران في المجال النووي.
- إضعاف جهود الحكومة العراقية لضبط الوضع في البلاد. وبينما تفرض الرياض ما يشبه الاغلاق على علاقاتها مع جارها الشمالي، تتهم اوساط الحكومة العراقية صراحة السعودية، الى جانب دول اخرى في المنطقة، بالوقوف وراء التفجيرات المتصاعدة في البلاد من أجل إحداث نتائج سياسية وتغيير المعادلة القائمة في البلد.
العلاقة التي لن تعود كما كانت:
صحيح ان بعض الاميركيين يصف الخلاف الاميركي- السعودي العلني بأنه "عائلي"، لكنهم يقرون بأنه خطير ويتحدثون عن افتراق في المصالح لا يترك مجالاً للمجاملات، ويردفون تعقيباً على محاولات الرياض الامساك بدفة الوضع في بلدان عربية عدة بأن واشنطن تريد رؤية تغيير في الداخل العربي يمنع تأسيس أزمات تتأثر بها مصالحها ومصالح حلفائها. ويبدو ان السعوديين لا يحبون سماع هذه الرسالة ويظنون ان واشنطن في وارد الانصياع لرؤيتهم الخاصة (يتحدث محللون اميركيون عن احباط البيت الابيض من بعض مواقف السعودية التي يصفونها بأنها "حليف غير ممتنّ وأحيانا نكِد"- أنظر مقالة ديفيد اغناطيوس في واشنطن بوست- 23 اكتوبر 2013: :The U.S.-Saudi crackup reaches a dramatic tipping point تراجع العلاقات الاميركية- السعودية يصل الى نقطة لاعودة درامية ).
لا تستطيع الادارة الاميركية الا ان تـُظهر اهتماماً علنياً بشكاوى الحكومة السعودية، غير انها لم تقدم الى الآن اشارة تذكر على انها ستتراجع أمام ما يبدو ضغطاً سعودياً وتلويحاً بتقليص التعاملات مع اميركا. وهي تدرك ان الرياض لن يكون في وسعها إحداث تغيير كبير مستدام في خارطة الشرق الاوسط من دون دعم اميركي وغربي، كما تدرك ان السعودية لن تستطيع الذهاب بعيدا عن واشنطن لأسباب عدة ليس أقلها عدم وجود بديل عنها من بين القوى العظمى الحالية. وبسحبها القطع البحرية التي نشرتها مؤخرا قريباً من الشواطئ السورية، ترسل الادارة الاميركية رسالة واضحة الى حلفائها بأنها ماضية في خططها بشأن العمل لإيجاد تفاهم مع روسيا حول سوريا.
أما السعودية فتعتقد ان امكاناتها تتيح لها التأثير من خارج مجلس الامن الدولي بصورة أقوى من تأثيرها داخله في الوقت الراهن. وهي تشجعت من تجربتي البحرين ومصر للمضي في محاولة قلب نظام الحكم في سوريا، في سعيها لاحتلال نفوذ اقليمي ولإعادة جذب انتباه اميركا اليها. وهذا يؤشر الى ان المرحلة المقبلة قد تشهد المزيد من جولات المواجهة على غير ساحة في المنطقة، ما قد يؤذي خصوصاً مساعي التسوية الجارية لحل الأزمة السورية.
والى ذلك، لا يتوقع أحد انهيار العلاقات الاميركية السعودية بسبب المصالح المتبادلة القوية، وفي مقدمها النفط والتعاون الامني، لكن هذه العلاقات قد لا تعود أبداً الى سابق عهدها، بسبب تغيرات لا يتقبلها الشريك السعودي حالياً، وفقا" لقناة المنار.
المصدر :
علي عبادي
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة