تعاقبت في الأيام الماضية الإشادات الدولية والعربية برئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت تاتشر التي لا يمكن، حكماً، المجادلة بدورها الكبير في إعادة بريطانيا بشكل فعلي إلى الساحة الدولية وتأثيرها، إلى حد كبير، في رسم مستقبل العلاقات الدولية. ولكن في المقابل، يتناسى البعض، وتحديداً في العالم العربي، أنّ هذه المرأة شكلت نموذجاً رئيسياً للتعامل الغربي النمطي مع القضايا الدولية وتحديداً تلك المتعلقة بقضايا العالم العربي، التي كانت نظرتها إليه تختصر بالمصالح في الخليج العربي وأمن إسرائيل. ويضاف إلى ذلك انها كانت من بين المؤسسين لمبادئ التوسع «الأطلسي» في ما بعد، ومن بين المؤسسين أيضاً لنموذج النظام الاقتصادي العالمي الجديد، الذي، ندفع اليوم أثمان «إبداعاته».

بداية، لم تكن مارغريت تاتشر طبعاً من الداعمين للقضية الفلسطينية، بل كانت من المنظرين لاتفاق سلام يعتمد على إعطاء الفلسطينيين حقاً في قطاع غزة والضفة الغربية في مقابل إعطاء السيادة للأردن على الضفة. وكانت نظرتها إلى الدور الأردني تتأتى من باب المحافظة على الكيان الذي أنشأته بريطانيا سابقاً وتوسيع دوره، إضافة إلى تلبية المطالب الإسرائيلية القاضية بعدم السماح للفلسطينيين بالسيطرة الكاملة على الضفة الغربية.

وفعلياً كانت تاتشر من الداعين إلى رسم خريطة سياسية جديدة في المنطقة تحمي دولة إسرائيل وتحافظ على مصالح بلادها. ويشار إلى أنّ «اتفاق لندن»، لتسريع مفاوضات السلام، الموقع في العام 1988 بين الملك الأردني حسين كممثل محتمل عن الفلسطينيين ووزير الخارجية الإسرائيلي شمعون بيريز يلخص رؤية السياسة الخارجية لبريطانيا في هذا المجال.

وفي هذا السياق، يضاف إلى ذلك أنّ تاتشر كانت مهتمة بالتسريع في مفاوضات السلام لأنها كانت تتخوف بشكل رئيسي من تصاعد المشاعر العدائية تجاه الغرب نظراً لدوره في دعم إسرائيل، وهذا ما كان سيؤثر حكماً في المصالح الغربية، التجارية والاقتصادية، في المنطقة وتحديداً في الخليج العربي.

وفي الواقع، يبدو أنّ السياسات الغربية تجاه المنطقة العربية تتميز باستمرارية مبادئها. ومثلاً، فإنّ العلاقة التي جمعت بين تاتشر والزعماء الإسرائيليين، برغم الخلافات اللاحقة في ما بينهم على بعض النقاط، تظهر أنّ النظرة إلى القضية الفلسطينية لا تبالي بحقوق بل تنطلق من مبدأ «حل النزاعات» وحماية المصالح الغربية والحفاظ على استمرارية دولة إسرائيل، التي كانت تاتشر تنظر إليها على أنها الديموقراطية الوحيدة في المنطقة وعلى أنها قاعدة ثابتة لمواجهة المد السوفياتي في ذلك الحين.

في المقابل، فإنّ هذه العلاقة الإستراتيجية عانت من صعوبة ترجمتها الفعلية على أرض الواقع نظراً للخلافات التي وقعت بين تاتشر والقيادات الإسرائيلية، اليمينية تحديداً. وفي هذا السياق، تفيد الوثائق البريطانية المنشورة حديثاً بأنّ اللقاء الأول الذي جمع تاتشر مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن في شهر أيار العام 1979 كان «متوتراً» نظراً لمعارضة تاتشر سياسات بيغن الاستيطانية وذلك لاعتقادها بأنّ مثل هذه المشاريع تعرض مشاريع السلام في الشرق الأوسط إلى مخاطر.

في حين كان من الصعب إقناع اليميني بيغن بهذا المنطق، ولكن في المقابل لم تكن معارضة السيدة تاتشر، وهي أول رئيس حكومة بريطانية يزور إسرائيل خلال فترة ولايته، وكان ذلك في شهر أيار العام 1986، تنطلق من الحرص على الفلسطينيين والقضايا العربية، بل كانت تعتقد أنّ زيادة التعقيد في ملف السلام سيؤثر بشكل مباشر في المصالح الغربية في العالم العربي، وتحديداً في منطقة الخليج العربي. وفي هذا السياق، يشار إلى أنّ الخليج العربي شكل محوراً إستراتيجياً في السياسات البريطانية والغربية في بدايات الثمانينيات نظراً للتبدلات الإستراتيجية التي شهدها الشرق الأوسط إثر قيام الثورة الإيرانية والاجتياح السوفياتي لأفغانستان في العام 1979.

ولمواجهة التغييرات، أصبح الاهتمام الغربي الرئيسي منصباً على وضع دول الخليج العربي، وكان الخوف من أن يسعى الاتحاد السوفياتي إلى لعب دور أكبر هناك. ومن هذا الباب يفهم التحذير الذي أطلقه الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر في العام 1980 إلى الاتحاد السوفياتي حين قال إنّ «أي محاولة للسيطرة على الخليج ستعتبر وكأنها هجوم على المصالح الأميركية وسيتم صدها بكل الوسائل، ومنها القوة العسكرية».

تزامنت هذه التبدلات مع وصول تاتشر إلى الحكم. ولعبت رئيسة الوزراء خلال تلك الفترة دوراً محورياً، وذلك من خلال تأثيرها القوي في السياسات الغربية تجاه التبدلات، ومن خلال محافظتها في منطقة الشرق الأوسط على ما يمكن وصفه بالنظرة البريطانية التقليدية للمنطقة في القرن العشرين. حاولت تاتشر حماية شبه الجزيرة العربية نظراً للمصالح الإستراتيجية لبلادها، وانطلاقاً من هنا، كانت داعية، مثلاً، إلى تشكيل مجلس سياسي موحد لدول المنطقة، قبل تأسيس «مجلس التعاون الخليجي»، إضافة إلى دعواتها المتتالية إلى تأسيس قوة عسكرية خليجية بهدف حماية المنطقة من أي تهديدات محتملة.

وفي حين لم تشهد على كامل فصول «حرب الخليج الثانية» إلا أنها شجعت، وبشكل كبير، الرئيس جورج بوش الأب على التدخل على رأس قوة دولية لحماية الكويت، وبالتالي المنطقة، وهي بذلك كانت من بين من أسس لتواجد القوات العسكرية الأميركية في الخليج.

وفي هذا السياق، تعتبر هذه الحرب واحدة من أهم تجارب السياسة الخارجية لتاتشر لأنها تظهر مقاربتها الفعلية للسياسة الخارجية. وهي تروي في مذكراتها أنه لدى إبلاغها بأنّ الرئيس العراقي صدام حسين بدأ اجتياحه للكويت اتصلت على الفور بالرئيس الأميركي جورج بوش. وخلال الحديث السريع رأت تاتشر أنه، أولاً، ليس على بريطانيا والولايات المتحدة «استرضاء الحكام الديكتاتوريين»، وثانياً، حذرت من أنه إذا لم يتم توقيف صدام حسين فإنّ «كل الاحتياطات النفطية في السعودية ودول الخليج ستصبح تحت سيطرته»، وفي هذا طبعاً تهديد كبير للبلدان الغربية. وفي ما بعد أكد الرئيس الأميركي أن تاتشر هي من شجعه فعلياً على المبادرة السريعة إلى إعلان الحرب والتدخل العسكري.

في المقابل، كان لرئيسة الوزراء البريطانية دور محوري، أيضاً، على الساحة الدولية نظراً لمشاركتها الفعالة في تحديد معالم تلك المرحلة عبر الدور الكبير الذي كانت تؤديه إلى جانب حليفها الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغن، ومن خلال تثبيت أسس السياسات «الأطلسية» العابرة للقارة الأوروبية لاحقاً، بالإضافة طبعاً إلى تمسكها بمبدأ «المصلحة الوطنية» على الساحة الدولية وبراعتها في ترجمة المكتسبات الخارجية في الساحة السياسية الداخلية، «حرب فوكلاند» مثلاً.

بدايةً، وللملاحظة، فإنّ العلاقة مع ريغن، والتي شُبهت بالعلاقة بين الرئيس الأميركي فرنكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستن تشرشل، توصف غالباً بالودية أو حتى بالممتازة بين الطرفين، إلا انها لم تكن لتتكون لولا وجود التهديد السوفياتي في تلك المرحلة، وللمفارقة يشار إلى أنّ صفة «المرأة الحديدية» أطلقتها صحيفة سوفياتية على مارغريت تاتشر.

وفي هذا السياق، فإنّ «التهديد السوفياتي» ومؤازرة تاتشر لحليفها الأميركي في سياساته تجاه هذا التهديد، وتحديداً في ما سمي بـ«حرب النجوم»، هو ما ولّد الصورة النمطية التي تحفظ اليوم في ذاكرة العديد من الأشخاص. يضاف إلى ذلك، طبعاً، عدد من القرارات المرحلية مثل المؤازرة البريطانية للولايات المتحدة في الضربة التي وجهتها إلى العقيد معمر القذافي في العام 1986.

مواجهة الاتحاد السوفياتي لم تكن أيضاً شاملة لأنها كانت تأتي في إطار حماية المصالح الغربية والسياسات «الأطلسية» ولكن مع الأخذ في عين الاعتبار المصلحة الوطنية للبلاد. وعلى سبيل المثال، فإنّ تاتشر لم تكن من المتحمسين لإعادة توحيد ألمانيا. كانت تنظر بعين الريبة إلى القارة الأوروبية وتحديداً إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه ألمانيا في حال توحدت مع ما يؤدي إليه ذلك من «زعزعة الاستقرار» على الساحة الأوروبية، وهذا ما تشير إليه في مذكراتها الصادرة في العام 1993.

في المقابل، لم تقتصر العلاقة مع ريغن على رسم السياسات الإستراتيجية، إذ قام الاثنان بثورة ليبرالية، إذا صح القول، أثرت بشكل كبير لاحقاً في الدول الغربية وفي العالم بعد انتهاء الحرب الباردة، وأسست لما سمي بمرحلة الـ«نيوليبرالية» التي ترتكز، فعلياً، على عدم تدخل الدولة في الاقتصاد، محولة بذلك القطاعات العامة إلى ما يشبه السوق التجاري.

وفي سياق آخر، تميزت تاتشر ببراعتها في بعض الأحيان باستخدام الساحة الخارجية لأهداف داخلية. تعتبر «حرب فوكلاند» أحد أهم الأمثلة التي تقدم في سياق المبدأ العام الذي يهدف إلى تحويل الأنظار عن الساحة الداخلية عبر تحقيق انتصار عسكري خارجي ليترجم في وقت لاحق على الساحة الداخلية. وللتأكيد على ذلك، فإنّ الحرب المذكورة ساعدت في إعادة انتخاب تاتشر لولاية ثانية.

في الواقع، فإنّ أهمية تلك الانتخابات كبيرة جداً لأنّ تاتشر عرفت كيف تستفيد من الساحة الخارجية لمواجهة المصاعب والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، ولكي توجه ضربة قاسمة لمنافسيها. واستطاعت تاتشر خلال الانتخابات المذكورة من الفوز بفارق قياسي حيث حصل «حزب العمال» على نسبة 27,6 في المئة فقط من الأصوات في مقابل حصول حزبها على نسبة 42,4 في المئة.

ومن باب الإشارة إلى السياسات الداخلية لتاتشر، فمن المعروف عنها شخصيتها الرافضة للحلول الوفاقية ولسلطويتها، والتي أثرت بشكل كبير في حزبها أيضاً حيث همشت القيادات الأخرى، وحتى انه لدى خروجها من الحكم عانى حزبها من ضعف في القيادة واحتاج إلى عدد من السنوات لسد الفجوات التي خلفتها وراءها. ومن جانبه أيضاً، عانى «حزب العمال» من المواجهة «الحديدية» التي فرضتها تاتشر، واحتاج إلى 14 عاماً بعد انتخابات 1983 حتى يعود إلى السلطة.

وفي سياق المواجهات الداخلية، استطاعت تاتشر، أيضاً، أن تلحق ضربة قاضية بنقابات العمال، تحديداً بين العام 1984 والعام 1985. وللإشارة كان رئيس الوزراء البريطاني السابق هارولد ماكميلان، وهو «محافظ» أيضاً، يقول إنه لو عاد إليه الأمر، لما واجه أولاد أولئك الذين شاركوه في الحربين العالميتين وقدموا التضحيات الكبيرة في هذا الصدد.

ومن جانب آخر، وفي حين لا يمكن المجادلة في الدور الذي أكسبته تاتشر لبلادها على الساحة الدولية، إلا أنها في المقابل، كان لها بعض المواقف التي لا تفهم إلا في سياق «العجرفة» الغربية على بلدان «العالم الثالث».

وفي هذا السياق، ليس وصفها لنيلسون مانديلا بـ«الإرهابي» غريباً، وليس غريبا أنها كانت، أيضاً، صديقة الديكتاتور التشيلي أوغيست بينوشيه ومدحته في العام 1999 قائلة: «لقد جلب الديموقراطية إلى تشيلي»!

يضاف إلى ذلك، أيضاً، دعمها غير المحدود، في إطار السياسة الغربية لمواجهة الاتحاد السوفياتي، للديكتاتور الباكستاني السابق الجنرال محمد ضياء الحق الذي دعم بدوره تشكيل الوفود الأولى من «المجاهدين الإسلاميين» إلى أفغانستان لمحاربة الاتحاد السوفياتي. وللإشارة، فإنّ العالم بشكل عام، والعالم العربي تحديداً، لا يزال يعاني من تداعيات تلك السياسات حتى يومنا هذا. قبل يومين، خرج وزير الخارجية الاوسترالي بوب كار عن ديبلوماسيته واضاف الى صفاتها، «العنصرية».

  • فريق ماسة
  • 2013-04-11
  • 6309
  • من الأرشيف

تاتشر كرمز لـ«الغرب المتوحش»

تعاقبت في الأيام الماضية الإشادات الدولية والعربية برئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت تاتشر التي لا يمكن، حكماً، المجادلة بدورها الكبير في إعادة بريطانيا بشكل فعلي إلى الساحة الدولية وتأثيرها، إلى حد كبير، في رسم مستقبل العلاقات الدولية. ولكن في المقابل، يتناسى البعض، وتحديداً في العالم العربي، أنّ هذه المرأة شكلت نموذجاً رئيسياً للتعامل الغربي النمطي مع القضايا الدولية وتحديداً تلك المتعلقة بقضايا العالم العربي، التي كانت نظرتها إليه تختصر بالمصالح في الخليج العربي وأمن إسرائيل. ويضاف إلى ذلك انها كانت من بين المؤسسين لمبادئ التوسع «الأطلسي» في ما بعد، ومن بين المؤسسين أيضاً لنموذج النظام الاقتصادي العالمي الجديد، الذي، ندفع اليوم أثمان «إبداعاته». بداية، لم تكن مارغريت تاتشر طبعاً من الداعمين للقضية الفلسطينية، بل كانت من المنظرين لاتفاق سلام يعتمد على إعطاء الفلسطينيين حقاً في قطاع غزة والضفة الغربية في مقابل إعطاء السيادة للأردن على الضفة. وكانت نظرتها إلى الدور الأردني تتأتى من باب المحافظة على الكيان الذي أنشأته بريطانيا سابقاً وتوسيع دوره، إضافة إلى تلبية المطالب الإسرائيلية القاضية بعدم السماح للفلسطينيين بالسيطرة الكاملة على الضفة الغربية. وفعلياً كانت تاتشر من الداعين إلى رسم خريطة سياسية جديدة في المنطقة تحمي دولة إسرائيل وتحافظ على مصالح بلادها. ويشار إلى أنّ «اتفاق لندن»، لتسريع مفاوضات السلام، الموقع في العام 1988 بين الملك الأردني حسين كممثل محتمل عن الفلسطينيين ووزير الخارجية الإسرائيلي شمعون بيريز يلخص رؤية السياسة الخارجية لبريطانيا في هذا المجال. وفي هذا السياق، يضاف إلى ذلك أنّ تاتشر كانت مهتمة بالتسريع في مفاوضات السلام لأنها كانت تتخوف بشكل رئيسي من تصاعد المشاعر العدائية تجاه الغرب نظراً لدوره في دعم إسرائيل، وهذا ما كان سيؤثر حكماً في المصالح الغربية، التجارية والاقتصادية، في المنطقة وتحديداً في الخليج العربي. وفي الواقع، يبدو أنّ السياسات الغربية تجاه المنطقة العربية تتميز باستمرارية مبادئها. ومثلاً، فإنّ العلاقة التي جمعت بين تاتشر والزعماء الإسرائيليين، برغم الخلافات اللاحقة في ما بينهم على بعض النقاط، تظهر أنّ النظرة إلى القضية الفلسطينية لا تبالي بحقوق بل تنطلق من مبدأ «حل النزاعات» وحماية المصالح الغربية والحفاظ على استمرارية دولة إسرائيل، التي كانت تاتشر تنظر إليها على أنها الديموقراطية الوحيدة في المنطقة وعلى أنها قاعدة ثابتة لمواجهة المد السوفياتي في ذلك الحين. في المقابل، فإنّ هذه العلاقة الإستراتيجية عانت من صعوبة ترجمتها الفعلية على أرض الواقع نظراً للخلافات التي وقعت بين تاتشر والقيادات الإسرائيلية، اليمينية تحديداً. وفي هذا السياق، تفيد الوثائق البريطانية المنشورة حديثاً بأنّ اللقاء الأول الذي جمع تاتشر مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن في شهر أيار العام 1979 كان «متوتراً» نظراً لمعارضة تاتشر سياسات بيغن الاستيطانية وذلك لاعتقادها بأنّ مثل هذه المشاريع تعرض مشاريع السلام في الشرق الأوسط إلى مخاطر. في حين كان من الصعب إقناع اليميني بيغن بهذا المنطق، ولكن في المقابل لم تكن معارضة السيدة تاتشر، وهي أول رئيس حكومة بريطانية يزور إسرائيل خلال فترة ولايته، وكان ذلك في شهر أيار العام 1986، تنطلق من الحرص على الفلسطينيين والقضايا العربية، بل كانت تعتقد أنّ زيادة التعقيد في ملف السلام سيؤثر بشكل مباشر في المصالح الغربية في العالم العربي، وتحديداً في منطقة الخليج العربي. وفي هذا السياق، يشار إلى أنّ الخليج العربي شكل محوراً إستراتيجياً في السياسات البريطانية والغربية في بدايات الثمانينيات نظراً للتبدلات الإستراتيجية التي شهدها الشرق الأوسط إثر قيام الثورة الإيرانية والاجتياح السوفياتي لأفغانستان في العام 1979. ولمواجهة التغييرات، أصبح الاهتمام الغربي الرئيسي منصباً على وضع دول الخليج العربي، وكان الخوف من أن يسعى الاتحاد السوفياتي إلى لعب دور أكبر هناك. ومن هذا الباب يفهم التحذير الذي أطلقه الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر في العام 1980 إلى الاتحاد السوفياتي حين قال إنّ «أي محاولة للسيطرة على الخليج ستعتبر وكأنها هجوم على المصالح الأميركية وسيتم صدها بكل الوسائل، ومنها القوة العسكرية». تزامنت هذه التبدلات مع وصول تاتشر إلى الحكم. ولعبت رئيسة الوزراء خلال تلك الفترة دوراً محورياً، وذلك من خلال تأثيرها القوي في السياسات الغربية تجاه التبدلات، ومن خلال محافظتها في منطقة الشرق الأوسط على ما يمكن وصفه بالنظرة البريطانية التقليدية للمنطقة في القرن العشرين. حاولت تاتشر حماية شبه الجزيرة العربية نظراً للمصالح الإستراتيجية لبلادها، وانطلاقاً من هنا، كانت داعية، مثلاً، إلى تشكيل مجلس سياسي موحد لدول المنطقة، قبل تأسيس «مجلس التعاون الخليجي»، إضافة إلى دعواتها المتتالية إلى تأسيس قوة عسكرية خليجية بهدف حماية المنطقة من أي تهديدات محتملة. وفي حين لم تشهد على كامل فصول «حرب الخليج الثانية» إلا أنها شجعت، وبشكل كبير، الرئيس جورج بوش الأب على التدخل على رأس قوة دولية لحماية الكويت، وبالتالي المنطقة، وهي بذلك كانت من بين من أسس لتواجد القوات العسكرية الأميركية في الخليج. وفي هذا السياق، تعتبر هذه الحرب واحدة من أهم تجارب السياسة الخارجية لتاتشر لأنها تظهر مقاربتها الفعلية للسياسة الخارجية. وهي تروي في مذكراتها أنه لدى إبلاغها بأنّ الرئيس العراقي صدام حسين بدأ اجتياحه للكويت اتصلت على الفور بالرئيس الأميركي جورج بوش. وخلال الحديث السريع رأت تاتشر أنه، أولاً، ليس على بريطانيا والولايات المتحدة «استرضاء الحكام الديكتاتوريين»، وثانياً، حذرت من أنه إذا لم يتم توقيف صدام حسين فإنّ «كل الاحتياطات النفطية في السعودية ودول الخليج ستصبح تحت سيطرته»، وفي هذا طبعاً تهديد كبير للبلدان الغربية. وفي ما بعد أكد الرئيس الأميركي أن تاتشر هي من شجعه فعلياً على المبادرة السريعة إلى إعلان الحرب والتدخل العسكري. في المقابل، كان لرئيسة الوزراء البريطانية دور محوري، أيضاً، على الساحة الدولية نظراً لمشاركتها الفعالة في تحديد معالم تلك المرحلة عبر الدور الكبير الذي كانت تؤديه إلى جانب حليفها الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغن، ومن خلال تثبيت أسس السياسات «الأطلسية» العابرة للقارة الأوروبية لاحقاً، بالإضافة طبعاً إلى تمسكها بمبدأ «المصلحة الوطنية» على الساحة الدولية وبراعتها في ترجمة المكتسبات الخارجية في الساحة السياسية الداخلية، «حرب فوكلاند» مثلاً. بدايةً، وللملاحظة، فإنّ العلاقة مع ريغن، والتي شُبهت بالعلاقة بين الرئيس الأميركي فرنكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستن تشرشل، توصف غالباً بالودية أو حتى بالممتازة بين الطرفين، إلا انها لم تكن لتتكون لولا وجود التهديد السوفياتي في تلك المرحلة، وللمفارقة يشار إلى أنّ صفة «المرأة الحديدية» أطلقتها صحيفة سوفياتية على مارغريت تاتشر. وفي هذا السياق، فإنّ «التهديد السوفياتي» ومؤازرة تاتشر لحليفها الأميركي في سياساته تجاه هذا التهديد، وتحديداً في ما سمي بـ«حرب النجوم»، هو ما ولّد الصورة النمطية التي تحفظ اليوم في ذاكرة العديد من الأشخاص. يضاف إلى ذلك، طبعاً، عدد من القرارات المرحلية مثل المؤازرة البريطانية للولايات المتحدة في الضربة التي وجهتها إلى العقيد معمر القذافي في العام 1986. مواجهة الاتحاد السوفياتي لم تكن أيضاً شاملة لأنها كانت تأتي في إطار حماية المصالح الغربية والسياسات «الأطلسية» ولكن مع الأخذ في عين الاعتبار المصلحة الوطنية للبلاد. وعلى سبيل المثال، فإنّ تاتشر لم تكن من المتحمسين لإعادة توحيد ألمانيا. كانت تنظر بعين الريبة إلى القارة الأوروبية وتحديداً إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه ألمانيا في حال توحدت مع ما يؤدي إليه ذلك من «زعزعة الاستقرار» على الساحة الأوروبية، وهذا ما تشير إليه في مذكراتها الصادرة في العام 1993. في المقابل، لم تقتصر العلاقة مع ريغن على رسم السياسات الإستراتيجية، إذ قام الاثنان بثورة ليبرالية، إذا صح القول، أثرت بشكل كبير لاحقاً في الدول الغربية وفي العالم بعد انتهاء الحرب الباردة، وأسست لما سمي بمرحلة الـ«نيوليبرالية» التي ترتكز، فعلياً، على عدم تدخل الدولة في الاقتصاد، محولة بذلك القطاعات العامة إلى ما يشبه السوق التجاري. وفي سياق آخر، تميزت تاتشر ببراعتها في بعض الأحيان باستخدام الساحة الخارجية لأهداف داخلية. تعتبر «حرب فوكلاند» أحد أهم الأمثلة التي تقدم في سياق المبدأ العام الذي يهدف إلى تحويل الأنظار عن الساحة الداخلية عبر تحقيق انتصار عسكري خارجي ليترجم في وقت لاحق على الساحة الداخلية. وللتأكيد على ذلك، فإنّ الحرب المذكورة ساعدت في إعادة انتخاب تاتشر لولاية ثانية. في الواقع، فإنّ أهمية تلك الانتخابات كبيرة جداً لأنّ تاتشر عرفت كيف تستفيد من الساحة الخارجية لمواجهة المصاعب والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، ولكي توجه ضربة قاسمة لمنافسيها. واستطاعت تاتشر خلال الانتخابات المذكورة من الفوز بفارق قياسي حيث حصل «حزب العمال» على نسبة 27,6 في المئة فقط من الأصوات في مقابل حصول حزبها على نسبة 42,4 في المئة. ومن باب الإشارة إلى السياسات الداخلية لتاتشر، فمن المعروف عنها شخصيتها الرافضة للحلول الوفاقية ولسلطويتها، والتي أثرت بشكل كبير في حزبها أيضاً حيث همشت القيادات الأخرى، وحتى انه لدى خروجها من الحكم عانى حزبها من ضعف في القيادة واحتاج إلى عدد من السنوات لسد الفجوات التي خلفتها وراءها. ومن جانبه أيضاً، عانى «حزب العمال» من المواجهة «الحديدية» التي فرضتها تاتشر، واحتاج إلى 14 عاماً بعد انتخابات 1983 حتى يعود إلى السلطة. وفي سياق المواجهات الداخلية، استطاعت تاتشر، أيضاً، أن تلحق ضربة قاضية بنقابات العمال، تحديداً بين العام 1984 والعام 1985. وللإشارة كان رئيس الوزراء البريطاني السابق هارولد ماكميلان، وهو «محافظ» أيضاً، يقول إنه لو عاد إليه الأمر، لما واجه أولاد أولئك الذين شاركوه في الحربين العالميتين وقدموا التضحيات الكبيرة في هذا الصدد. ومن جانب آخر، وفي حين لا يمكن المجادلة في الدور الذي أكسبته تاتشر لبلادها على الساحة الدولية، إلا أنها في المقابل، كان لها بعض المواقف التي لا تفهم إلا في سياق «العجرفة» الغربية على بلدان «العالم الثالث». وفي هذا السياق، ليس وصفها لنيلسون مانديلا بـ«الإرهابي» غريباً، وليس غريبا أنها كانت، أيضاً، صديقة الديكتاتور التشيلي أوغيست بينوشيه ومدحته في العام 1999 قائلة: «لقد جلب الديموقراطية إلى تشيلي»! يضاف إلى ذلك، أيضاً، دعمها غير المحدود، في إطار السياسة الغربية لمواجهة الاتحاد السوفياتي، للديكتاتور الباكستاني السابق الجنرال محمد ضياء الحق الذي دعم بدوره تشكيل الوفود الأولى من «المجاهدين الإسلاميين» إلى أفغانستان لمحاربة الاتحاد السوفياتي. وللإشارة، فإنّ العالم بشكل عام، والعالم العربي تحديداً، لا يزال يعاني من تداعيات تلك السياسات حتى يومنا هذا. قبل يومين، خرج وزير الخارجية الاوسترالي بوب كار عن ديبلوماسيته واضاف الى صفاتها، «العنصرية».

المصدر : الماسة السورية/محمود مروة


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة