تتطلّع الشعوب العربية إلى غدها بقلق. في معظم البلدان التي تشهد تحوّلات منذ قرابة ثلاثة أعوام يبدو الأفق مليئاً بعدم اليقين. في الأقطار الأخرى هناك توازن محكوم بالنفط من جهة وبالديموغرافيا من جهة أخرى. ولكن المشترك بين الجميع هو التعطّش إلى حياة منتجة تحت مظلّة القانون والشفافية. الحاجة هي لاقتصادات فاعلة تؤمّن لقرابة 400 مليون إنساناً كرامة منشودة.

علمياً، لا يُمكن تلمّس كرامة كهذع إلا عبر مؤسسات تقوّيها قيادات سياسية واعية لمسؤوليات وطنيّة تعتمد خيارات مستدامة لرخاء شعوبها. وبناء تلك المؤسسات هو عملية تراكميّة، يُحاجج البعض في أنها متاحة بغض النظر عن الموروث الحضاري أكان دينياً أم ثقافياً.

النقاش هنا يطول، ولكن مهما تحمل رياح التغيير العربية ــــ الأوراق الصفراء أو البنفسجيّة ــــ هناك ثابتة علميّة وتاريخية: الشهيد محمد بوعزيزي لم يُشعل جسده إلا احتجاجاً على واقع مؤسف لإدارة الثرورة الوطنية في تونس؛ وليس بالضرورة أبداً أن تكون الثروة الوقود الأحفوري. فبعدما كان هذا البلد واعداً في المخرجات الاقتصاديّة والاجتماعية للتنمية على مدى زهاء ثلاثة عقود، تحوّل إلى اقتصاد أبوي، يقوم إلى حدود كبيرة على شبكة «السيدة الأولى»، ليلى طرابلسي، زوجة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.

تراكمت الاجتهادات من المؤسسات والمفكّرين الرائدين في تحليل حراك العالم العربي. بعضهم قدّم مراجعة مبطّنة في بعض الأحيان، ومباشرة في أحيان أخرى. أضحى صندوق النقد الدولي يتحدّث عن «النموّ الدامج» بصفته الوصفة الصحيحة لاحتواء الاضطرابات والإعداد لمجتمعات مشرقة.

يُقدّر الصندوق اليوم أنّه يتحتّم على البلدان العربيّة خلق أكثر من 22 ألف فرصة عمل يومياً حتى عام 2020، وتحديداً في القطاع الصناعي، لكي تواجه معدّلات البطالة المرتفعة ولتحقيق تسارع في معدّلات النموّ ومؤشّرات التنمية.

في الواقع تعاني البلدان العربيّة من أعلى معدّلات البطالة بين الشباب على مستوى إقليمي. في أوساط هذا الشباب المنتشر على مساحة تفوق 13 مليون كيلومتر مربّع، يفوق معدل البطالة 26%.

يبدو من شبه المؤكّد أن بيانات كهذه ليست على قائمة قمّة جامعة الدول العربية التي عُقدت في قطر خلال اليومين الماضيين، كما كانت الأمور تقليدياً في قمم كهذه. اللوحة السياسية المرسومة من خليج العرب وصولاً إلى مغربهم، تتبدّل طبقاً لاختلاف اللحظات، لكن هناك ثوابت عربيّة تبقى سائدة في كلّ الفصول، تُعبّر عنها إحدى المعادلات البسيطة: فيما يواجه أكثر من نصف مليون طفل في اليمن خطر المجاعة بفعل ارتفاع أسعار الغذاء ترتفع حصّة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في قطر لتفوق عتبة 100 ألف دولار!

إنّها قصّة الفروقات الطبقية التي تفرضها الطبيعة في حين والسياسة الدوليّة وسوء الإدارة الوطنية في حين آخر. فحجم الاقتصاد العربي ــــ أي حاصل ما تُنتجه 22 دولة في عام واحد ــــ يبلغ 2.55 تريليون دولار (2550 مليار دولار) ولكن60% منه مصدره النفط والغاز. ومع تخبّط البلدان الهشّة في حراكها الداخلي أو أزمة حوكمتها ــــ من ليبيا وصولاً إلى لبنان ــــ تثمل أخرى برائحة الوقود في براميل ثمينة معدّة للتصدير.

أضحت الجامعة العربية التي احتفلت قبل أيام بذكرى مولدها، واستذكرت تأسيسها في القاهرة عام 1945، أبعد ما تكون عن تحقيق رسالتها الأساسية: «توطيد العلاقات بين الدول الأعضاء وتنسيق التعاون بينها». من الأساس، بدت رسالة كهذه خياليّة.

رغم كل ذلك تستمرّ فكرة «التعاون الاقتصادي العربي» بمداعبة مخيلة بعض المحلّلين والمفكّرين، على اعتبار أن ثروة العرب، إذا استُثمرت على نحو ملائم، تُفيدهم جميعاً، وخصوصاً في مرحلة التحوّلات العربية. لكن يبدو أنّ تلك المخيلة شطحت إلى حدود كبيرة، وكذلك فكرة الجامعة العربية.

  • فريق ماسة
  • 2013-03-26
  • 10976
  • من الأرشيف

كيف تصرف ثروة تبلغ 2.5 تريليون دولار؟

تتطلّع الشعوب العربية إلى غدها بقلق. في معظم البلدان التي تشهد تحوّلات منذ قرابة ثلاثة أعوام يبدو الأفق مليئاً بعدم اليقين. في الأقطار الأخرى هناك توازن محكوم بالنفط من جهة وبالديموغرافيا من جهة أخرى. ولكن المشترك بين الجميع هو التعطّش إلى حياة منتجة تحت مظلّة القانون والشفافية. الحاجة هي لاقتصادات فاعلة تؤمّن لقرابة 400 مليون إنساناً كرامة منشودة. علمياً، لا يُمكن تلمّس كرامة كهذع إلا عبر مؤسسات تقوّيها قيادات سياسية واعية لمسؤوليات وطنيّة تعتمد خيارات مستدامة لرخاء شعوبها. وبناء تلك المؤسسات هو عملية تراكميّة، يُحاجج البعض في أنها متاحة بغض النظر عن الموروث الحضاري أكان دينياً أم ثقافياً. النقاش هنا يطول، ولكن مهما تحمل رياح التغيير العربية ــــ الأوراق الصفراء أو البنفسجيّة ــــ هناك ثابتة علميّة وتاريخية: الشهيد محمد بوعزيزي لم يُشعل جسده إلا احتجاجاً على واقع مؤسف لإدارة الثرورة الوطنية في تونس؛ وليس بالضرورة أبداً أن تكون الثروة الوقود الأحفوري. فبعدما كان هذا البلد واعداً في المخرجات الاقتصاديّة والاجتماعية للتنمية على مدى زهاء ثلاثة عقود، تحوّل إلى اقتصاد أبوي، يقوم إلى حدود كبيرة على شبكة «السيدة الأولى»، ليلى طرابلسي، زوجة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. تراكمت الاجتهادات من المؤسسات والمفكّرين الرائدين في تحليل حراك العالم العربي. بعضهم قدّم مراجعة مبطّنة في بعض الأحيان، ومباشرة في أحيان أخرى. أضحى صندوق النقد الدولي يتحدّث عن «النموّ الدامج» بصفته الوصفة الصحيحة لاحتواء الاضطرابات والإعداد لمجتمعات مشرقة. يُقدّر الصندوق اليوم أنّه يتحتّم على البلدان العربيّة خلق أكثر من 22 ألف فرصة عمل يومياً حتى عام 2020، وتحديداً في القطاع الصناعي، لكي تواجه معدّلات البطالة المرتفعة ولتحقيق تسارع في معدّلات النموّ ومؤشّرات التنمية. في الواقع تعاني البلدان العربيّة من أعلى معدّلات البطالة بين الشباب على مستوى إقليمي. في أوساط هذا الشباب المنتشر على مساحة تفوق 13 مليون كيلومتر مربّع، يفوق معدل البطالة 26%. يبدو من شبه المؤكّد أن بيانات كهذه ليست على قائمة قمّة جامعة الدول العربية التي عُقدت في قطر خلال اليومين الماضيين، كما كانت الأمور تقليدياً في قمم كهذه. اللوحة السياسية المرسومة من خليج العرب وصولاً إلى مغربهم، تتبدّل طبقاً لاختلاف اللحظات، لكن هناك ثوابت عربيّة تبقى سائدة في كلّ الفصول، تُعبّر عنها إحدى المعادلات البسيطة: فيما يواجه أكثر من نصف مليون طفل في اليمن خطر المجاعة بفعل ارتفاع أسعار الغذاء ترتفع حصّة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في قطر لتفوق عتبة 100 ألف دولار! إنّها قصّة الفروقات الطبقية التي تفرضها الطبيعة في حين والسياسة الدوليّة وسوء الإدارة الوطنية في حين آخر. فحجم الاقتصاد العربي ــــ أي حاصل ما تُنتجه 22 دولة في عام واحد ــــ يبلغ 2.55 تريليون دولار (2550 مليار دولار) ولكن60% منه مصدره النفط والغاز. ومع تخبّط البلدان الهشّة في حراكها الداخلي أو أزمة حوكمتها ــــ من ليبيا وصولاً إلى لبنان ــــ تثمل أخرى برائحة الوقود في براميل ثمينة معدّة للتصدير. أضحت الجامعة العربية التي احتفلت قبل أيام بذكرى مولدها، واستذكرت تأسيسها في القاهرة عام 1945، أبعد ما تكون عن تحقيق رسالتها الأساسية: «توطيد العلاقات بين الدول الأعضاء وتنسيق التعاون بينها». من الأساس، بدت رسالة كهذه خياليّة. رغم كل ذلك تستمرّ فكرة «التعاون الاقتصادي العربي» بمداعبة مخيلة بعض المحلّلين والمفكّرين، على اعتبار أن ثروة العرب، إذا استُثمرت على نحو ملائم، تُفيدهم جميعاً، وخصوصاً في مرحلة التحوّلات العربية. لكن يبدو أنّ تلك المخيلة شطحت إلى حدود كبيرة، وكذلك فكرة الجامعة العربية.

المصدر : الأخبار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة