دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
من كل المشهدية التي قدمها عقاب صقر، يعلق في البال سؤال: لماذا في اسطنبول؟ لماذا من هذه المدينة في هذا البلد؟ لماذا من حيث أعلن منظر "العمق الاستراتيجي" النيو –عثماني، داوود أوغلو، أن نظريته تعيد تشكيل الشرق الأوسط؟ لماذا من بلاط صاحب قصيدة المآذن والمصاحف، سلطان الزمن الأركاييكي، الذي أبلغنا من قاهرة مرسي وبديع وسيد قطب المتقمص، أن القسطنطينية كانت عصراً أسود؟
الجواب في متابعة العالم الغربي الراهن، كتابة وصحافة ومواقع وتفكيراً. هناك تطوي المشهد السوري اللبناني الأردني الفلسطيني... على مشهدية عقاب صقر، لتنفتح أمامك أفق أوسع للقراءة والفهم. هناك، في الفكر الغربي المفرز يومياً، لا تصدر صفحة حالية من دون إشارة إلى خطأ، بل خطيئة سايكس ــ بيكو، كما يكادون يسمونها. لا يمر عدد صحيفة، ولا مدونة، ولا ورقة بحث، منذ أكثر من سنة، من دون العودة إلى تلك المماثلة. ليس السب أننا اقتربنا من الذكرى المئوية للحدث المؤرخ في 16 أيار 1916. بل النظرة الغربية المستقبلية لعقودنا الشرقية الآتية. باختصار يعيد الغرب هذه الأيام قراءته للحرب العالمية الأولى. يقولون إن سببها كانت بريطانيا. فحين تقربت ألمانيا من روسيا، وأحست لندن أن أسس نظامها الاقتصادي الاستعماري باتت مهددة، قررت قلب الطاولة على الجميع. بعدها، وعفواً من التفاصيل، راحت تغدق الوعود على الجميع، تحقيقاً لهدفها. وعدت فرنسا بحصة استعمارية وازنة، ووعدت اليهود بكيان قومي ناجز، ووعدت اليونان، ووعدت البلقان، ووعدت حتى أفغانستان... وأكيد وعدت العرب، عبر حسين ملك الحجاز، بخلافة تمتد من مصر حتى فارس. ويكمل الغربيون في تفسيرهم مباشرة لأحداثنا الراهنة، يقولون: حين اصطدم البريطانيون باستحالة الإيفاء بوعودهم المتناقضة، قرروا الخروج من المأزق بتقسيم المنطقة كلها إلى كيانات مصطنعة ودوائر نفوذ، "من دون الانتباه إلى الطبيعة الاتنية لتلك الجغرافيات والديمغرافيات"، كما اكتشف هؤلاء اليوم. وبعد آلاف الصفحات المنبوشة في زمننا الراهن حول مباحثات السيدين سايكس وبيكو في لندن، يخلص مفكرو الغرب حالياً، إلى أن مسؤولية كل ما يحصل في سوريا ومصر والعراق ولبنان وغيرها من بلدان منطقتنا من كوارث راهنة، هو أن البريطانيين، ومن ثم الفرنسيين بتبعيتهم لهم، أخطأوا في تقسيم المنطقة واستيلاد كياناتها واصطناع دولها. لا بل يذهب بعض المحللين الغربيين أبعد، من الخلاصة إلى التشخيص. يقولون: قبل التدخل الغربي كانت المنطقة تعيش في استقرار نسبي، في ظل السلطنة العثمانية. بعدما أسقطناها، وأقمنا حدود الدول في شكل مغاير لحدود الإتنيات والعرقيات، أدخلنا المنطقة في جحيم، وأدخلنا أنفسنا معها فيه. بعد مئة عام على الحدث المؤسس لثورتنا العربية واستقلالاتنا الوطنية، يعيد الغربيون النظر في تلك اللحظة. يقولون لنا: عفواً كانت غلطة. وعذراً، ما كان علينا القيام بما قمنا به. بعض الكتابات صريح جداً. يؤكدون مثلاً أن هاردينغ، مسؤول "المكتب الهندي" في التاج البريطاني، كان على حق. كانت عينه على العراق الداخل في نطاقه الجغرافي. ولم يكن مأخوذاً برومانسية لورانس العرب ومراهقته السياسية. بعد مئة عام يتذكرون كتابة الأول إلى لندن ناصحاً: "من العبث النقاش حول إعطاء العرب أي استقلال. فهؤلاء عاجزون دائماً عن حكم أنفسهم".
ما المطلوب الآن غربياً؟ كيف برأيهم تصحيح ما باتوا يعتبرونه خطأهم العمره مئة عام؟ السياسيون والدبلوماسيون خجولون متحفظون. أما الباحثون فأكثر صراحة وشفافية. في اعتقادهم أن العودة إلى دروس ما قبل القرن المشكلة، وما قبل كارثة سايكس ــ بيكو، باتت ضرورية. فإما إعادة تشكيل "سلطنة" ما تضبط كل تلك المستنقعات والرمال المتحركة، وإما تقسيمها هذه المرة وفق الحدود الطبيعية، اي حدود الإتنيات والعرقيات. من دون أوهام "الدولة ــ الأمة"، وبلا شعارات القوميات المدفونة مع العالم القديم ومع دوله العظمى المتحولة مهزلة وسخرية. إما أن يكون هناك باب عال جديد، يدير "نواحي الملل" المختلفة، وإما أن تصير تلك الملل هي الدول، ولتتحمل مسؤولياتها.
والمشروع المطلوب أو المرتجى غربياً، يجيب على أكثر من تطلع وتمن. فواشنطن وضعته اسود على أبيض خطياً، منذ العام 2000، مع مشروع "القطيعة النهائية" الذي أشرف عليه فريق عمل ديك تشيني. وحين اعتقد المسكين أنه حقق إنجازاً عظيماً برفعه يومها إلى نتنياهو، فوجئ بأن الأخير يملك النسخة الأصلية عن المشروع، تلك التي وضعها أوديد يينون سنة 1982، لتقسيم لبنان والمنطقة. المهم أن الغرب كله يفكر عشية مئوية سايكس بيكو، بأن قرناً واحداً يكفي. إما أن نعيدهم إلى اسطنبول وإما أن نحيلهم كلهم اسرائيليات. لكم الخيار... على الهواء مباشرة من اسطنبول.
المصدر :
جان عزيز \ الأخبار
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة