لم يكن رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش في التاسع من آب 2008 حدثاً عادياً فالرجل عنوان لحداثة شعرية انقطعت أخبارها في القصيدة العربية من العصر العباسي على يد المتنبي وابي تمام وابي فراس الحمداني اذ لم يكن ابن قرية البروة الواقعة في قضاء عكا الجليل طفلا استثنائيا من جهة حياة عاشها مع أسرته نازحا مع من نزحوا عن ارضهم الى لبنان بعيد الجرائم التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في ارض كنعان عام 1947 ليعود الطفل مع ابويه بعيد هدنة 1949 الى ارضه ليجدها وقد حولها المستوطنون الصهاينة الى قرية زراعية اسرائيلية.

وتعرض درويش أثناء حياته على أرضه العربية فلسطين للاعتقال من قبل سلطات الاحتلال مرارا بدءا من عام 1961 بتهم تتعلق بتصريحاته ونشاطه السياسي وفي عام 1972 توجه الى الاتحاد السوفييتي للدراسة منتقلا بعدها لاجئا الى القاهرة من العام ذاته حيث التحق بمنظمة التحرير الفلسطينية ثم الى لبنان حيث عمل في موءسسات النشر والدراسات التابعة للمنظمة.

ولم يتخل الشاعر الذي كتب للأرض والإنسان عن مواقفه المبدئية إذ انه استقال من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير احتجاجاً على اتفاقية اوسلو ليوءسس من قبرص مجلة الكرمل الثقافية التي اعتبرت من اهم المجلات الادبية العربية بعد مرحلة مجلة شعر البيروتية.

ويعتبر صاحب /لماذا تركت الحصان وحيداً/ من أهم مجددي النسق الشعري العربي المعاصر بكتابته لقصيدة التفعيلة وفق إيقاعات غنائية طالعة من روح الأرض والإنسان الفلسطيني المبعد عن ارضه وجذوره وصنف من اهم الاصوات التي اوصلت الحق الفلسطيني وقضاياه العادلة الى كل ارجاء العالم حتى بات اسم محمود درويش عنوانا لهذا الحق عبر ترجمة قصائد درويش الى معظم لغات الارض الحية.

ويعد النقاد أشعار درويش من النصوص ذات الطاقة الزمنية المستمرة بما تحمله من دفقٍ وجداني عالي النبرة وقدرة استثنائية على صياغة حياة شعبٍ بأكمله عبر دمج الهم الذاتي بالموضوعي وقول القصيدة الرافضة من خلال الذاتية ذات اللهجة الجماعية المتمردة.

ويقول درويش في قصيدة لبيروت أثناء الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 سقطت ذراعك فالتقطها واضرب عدوك لا مفر وسقطت قربك يا ابن أمي فالتقطني واضرب عدوك بي فأنت الآن حر وحر.

ويتميز نص درويش الشعري منذ أول دواوينه عام 1960 المعنون ب/عصافير بلا أجنحة/ بلغةٍ هادرة قريبة إلى صوت النضال الفلسطيني المسلح وصوت الانتفاضة الفلسطينية التي كان ابرز من عبر عنها منذ اشعاره الاولى كما في اوراق الزيتون 1964 وديوانه عاشق من فلسطين 1966 حيث اندمج النص الشعري هنا بهتاف الثوار الفلسطينيين وعنادهم من اجل حق العودة.

يقول درويش.. ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا.. ونرقص بين شهيدين.. نرفع مأذنة للبنفسج بينهما أو نخيلا.. ونزرع حيث أقمنا نباتا سريع النمو ونحصد حيث أقمنا قتيلا.. وننفخ في الناي لون البعيد البعيد ونرسم فوق تراب الممر صهيلا.. نحب الحياة اذا ما استطعنا اليها سبيلا.

ويعتبر صاحب /الجدارية/ من الشعراء العرب القلائل الذين جمعوا في شعره بين جمهورين للشعر على طرفي نقيض الأول جمهور النخبة المثقفة التي تلقت قصائده بكثير من الدهشة والاحترام وثانيهما جمهور الشارع الذي اطلق عليه شاعر القضية بلا منازع حيث كان الاعلان عن امسية شعرية لدرويش في احدى العواصم العربية حدثا استثنائيا لكلا الجمهورين فلم يبتعد عبر نصوصه الى تقعيرات اللغة وضبابيتها ولم يتنازل عن مستواه الفني الرفيع في ابتكار الدلالة وسوقها الى مستقر النغمة الشعرية المتصاعدة وفق ايقاعات بيانية ومجازات لا نهائية في تصويرها للهموم الوطنية والقومية على حد سواء.

يقول درويش.. عندما يذهب الشهداء إلى النوم أصحو.. وأحرسهم من هواة الرثاء.. وأقول لهم تصبحون على وطن.. من سحاب ومن شجن.. من سراب وماء.. أهنئهم بالسلامة من حادث المستحيل.

ويعد الشاعر العربي الكبير من أوائل الشعراء الذين اشتغلوا على بنية القصيدة الجديدة من غير أي انقطاع مع تراث الأمة وتاريخها الشعري بل بالتركيز أكثر على أبعاد هذا التاريخ مستلهما منه ملاحم كاملة يبدو فيها النص اقرب الى الغرافيك الزمني للنص الشعري كما في قصيدته الطويلة رحلة المتنبي الى مصر التي يتمثل فيها شخصية المتنبي مخاطبا اياه عبر العصور للنيل عادات واني راحل الآن اشهر كل اسئلتي واسأل كيف اسأل والصراع هو الصراع والروم ينتشرون حول الضاد.. لا سيف يطاردهم هناك ولا ذراع كل الرماح تصيبني وتعيد اسمائي الي للنيل عادات واني راحل.

ويميز تجربة صاحب /ورد أقل/ قدرتها على تغيير مناخاتها الإبداعية من حيث الحفر في اللغة العربية والتعويل على فرادة الصورة المختبئة في تجاور المفردات التي اشتغل عليها درويش متكئا على سليقة نوعية في استلهام النبرة المؤثرة ذات التخييل العالي في تكثيف اللحظة الشعرية يقول درويش مخاطبا قمر بعلبك.. قمر على بعلبك.. ياحلو من صبك.. فرساً من الياقوت.. قل لي ومن كبك.. نهرين في تابوت.. يا ليت لي قلبك.. لأموت حين أموت.

وتعتبر موضوعة الموت من أكثر الموضوعات التي شغلت بال الشاعر في دواوينه الأخيرة لاسيما حواره المطول معه في ملحمته الشعرية المعنونة ب/الجدارية/ حيث يستحضر الشاعر هنا ابطال ملحمة جلجامش ولاسيما في قوله.. انكيدو هل تدري انك ميت او في قوله يا موت هزمتك الفنون جميعها او في يا موت ربما اسرجت لي فرسا لتقتلني على فرسي.

 

وللحب حضور في قصائد الشاعر الراحل باستثنائية وجدانية عالية استطاع من خلالها درويش ان يقدم نصوصاً في غاية الرقة لرفيق دربه الفنان مارسيل خليفة كما في قصيدة /شتاء ريتا الطويل/ حيث شكل درويش وخليفة عبر ما يقارب ثلاثين عاما من الغناء والقصيدة انموذجا يصعب تكراره في نقل قصيدة الحداثة العربية الى مزاج واسع من جمهور عربي عريض تكنى بهذه التجربة وحفظها عن ظهر قلب وهذا ما عبر عنه الفنان خليفة في حفلاته مؤخرا على مسرح قلعة دمشق عندما دعا جمهوره هناك لاحياء ذكرى محمود باغنية كتبها الشاعر لامه هي تعاليم حورية التي قدمها مارسيل تحية للشاعر في ذكرى رحيله الثاني.

  • فريق ماسة
  • 2012-08-08
  • 12987
  • من الأرشيف

محمود درويش في ذكرى غيابه الرابع.. شاعر يزيده الغياب حضوراً

  لم يكن رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش في التاسع من آب 2008 حدثاً عادياً فالرجل عنوان لحداثة شعرية انقطعت أخبارها في القصيدة العربية من العصر العباسي على يد المتنبي وابي تمام وابي فراس الحمداني اذ لم يكن ابن قرية البروة الواقعة في قضاء عكا الجليل طفلا استثنائيا من جهة حياة عاشها مع أسرته نازحا مع من نزحوا عن ارضهم الى لبنان بعيد الجرائم التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في ارض كنعان عام 1947 ليعود الطفل مع ابويه بعيد هدنة 1949 الى ارضه ليجدها وقد حولها المستوطنون الصهاينة الى قرية زراعية اسرائيلية. وتعرض درويش أثناء حياته على أرضه العربية فلسطين للاعتقال من قبل سلطات الاحتلال مرارا بدءا من عام 1961 بتهم تتعلق بتصريحاته ونشاطه السياسي وفي عام 1972 توجه الى الاتحاد السوفييتي للدراسة منتقلا بعدها لاجئا الى القاهرة من العام ذاته حيث التحق بمنظمة التحرير الفلسطينية ثم الى لبنان حيث عمل في موءسسات النشر والدراسات التابعة للمنظمة. ولم يتخل الشاعر الذي كتب للأرض والإنسان عن مواقفه المبدئية إذ انه استقال من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير احتجاجاً على اتفاقية اوسلو ليوءسس من قبرص مجلة الكرمل الثقافية التي اعتبرت من اهم المجلات الادبية العربية بعد مرحلة مجلة شعر البيروتية. ويعتبر صاحب /لماذا تركت الحصان وحيداً/ من أهم مجددي النسق الشعري العربي المعاصر بكتابته لقصيدة التفعيلة وفق إيقاعات غنائية طالعة من روح الأرض والإنسان الفلسطيني المبعد عن ارضه وجذوره وصنف من اهم الاصوات التي اوصلت الحق الفلسطيني وقضاياه العادلة الى كل ارجاء العالم حتى بات اسم محمود درويش عنوانا لهذا الحق عبر ترجمة قصائد درويش الى معظم لغات الارض الحية. ويعد النقاد أشعار درويش من النصوص ذات الطاقة الزمنية المستمرة بما تحمله من دفقٍ وجداني عالي النبرة وقدرة استثنائية على صياغة حياة شعبٍ بأكمله عبر دمج الهم الذاتي بالموضوعي وقول القصيدة الرافضة من خلال الذاتية ذات اللهجة الجماعية المتمردة. ويقول درويش في قصيدة لبيروت أثناء الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 سقطت ذراعك فالتقطها واضرب عدوك لا مفر وسقطت قربك يا ابن أمي فالتقطني واضرب عدوك بي فأنت الآن حر وحر. ويتميز نص درويش الشعري منذ أول دواوينه عام 1960 المعنون ب/عصافير بلا أجنحة/ بلغةٍ هادرة قريبة إلى صوت النضال الفلسطيني المسلح وصوت الانتفاضة الفلسطينية التي كان ابرز من عبر عنها منذ اشعاره الاولى كما في اوراق الزيتون 1964 وديوانه عاشق من فلسطين 1966 حيث اندمج النص الشعري هنا بهتاف الثوار الفلسطينيين وعنادهم من اجل حق العودة. يقول درويش.. ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا.. ونرقص بين شهيدين.. نرفع مأذنة للبنفسج بينهما أو نخيلا.. ونزرع حيث أقمنا نباتا سريع النمو ونحصد حيث أقمنا قتيلا.. وننفخ في الناي لون البعيد البعيد ونرسم فوق تراب الممر صهيلا.. نحب الحياة اذا ما استطعنا اليها سبيلا. ويعتبر صاحب /الجدارية/ من الشعراء العرب القلائل الذين جمعوا في شعره بين جمهورين للشعر على طرفي نقيض الأول جمهور النخبة المثقفة التي تلقت قصائده بكثير من الدهشة والاحترام وثانيهما جمهور الشارع الذي اطلق عليه شاعر القضية بلا منازع حيث كان الاعلان عن امسية شعرية لدرويش في احدى العواصم العربية حدثا استثنائيا لكلا الجمهورين فلم يبتعد عبر نصوصه الى تقعيرات اللغة وضبابيتها ولم يتنازل عن مستواه الفني الرفيع في ابتكار الدلالة وسوقها الى مستقر النغمة الشعرية المتصاعدة وفق ايقاعات بيانية ومجازات لا نهائية في تصويرها للهموم الوطنية والقومية على حد سواء. يقول درويش.. عندما يذهب الشهداء إلى النوم أصحو.. وأحرسهم من هواة الرثاء.. وأقول لهم تصبحون على وطن.. من سحاب ومن شجن.. من سراب وماء.. أهنئهم بالسلامة من حادث المستحيل. ويعد الشاعر العربي الكبير من أوائل الشعراء الذين اشتغلوا على بنية القصيدة الجديدة من غير أي انقطاع مع تراث الأمة وتاريخها الشعري بل بالتركيز أكثر على أبعاد هذا التاريخ مستلهما منه ملاحم كاملة يبدو فيها النص اقرب الى الغرافيك الزمني للنص الشعري كما في قصيدته الطويلة رحلة المتنبي الى مصر التي يتمثل فيها شخصية المتنبي مخاطبا اياه عبر العصور للنيل عادات واني راحل الآن اشهر كل اسئلتي واسأل كيف اسأل والصراع هو الصراع والروم ينتشرون حول الضاد.. لا سيف يطاردهم هناك ولا ذراع كل الرماح تصيبني وتعيد اسمائي الي للنيل عادات واني راحل. ويميز تجربة صاحب /ورد أقل/ قدرتها على تغيير مناخاتها الإبداعية من حيث الحفر في اللغة العربية والتعويل على فرادة الصورة المختبئة في تجاور المفردات التي اشتغل عليها درويش متكئا على سليقة نوعية في استلهام النبرة المؤثرة ذات التخييل العالي في تكثيف اللحظة الشعرية يقول درويش مخاطبا قمر بعلبك.. قمر على بعلبك.. ياحلو من صبك.. فرساً من الياقوت.. قل لي ومن كبك.. نهرين في تابوت.. يا ليت لي قلبك.. لأموت حين أموت. وتعتبر موضوعة الموت من أكثر الموضوعات التي شغلت بال الشاعر في دواوينه الأخيرة لاسيما حواره المطول معه في ملحمته الشعرية المعنونة ب/الجدارية/ حيث يستحضر الشاعر هنا ابطال ملحمة جلجامش ولاسيما في قوله.. انكيدو هل تدري انك ميت او في قوله يا موت هزمتك الفنون جميعها او في يا موت ربما اسرجت لي فرسا لتقتلني على فرسي.   وللحب حضور في قصائد الشاعر الراحل باستثنائية وجدانية عالية استطاع من خلالها درويش ان يقدم نصوصاً في غاية الرقة لرفيق دربه الفنان مارسيل خليفة كما في قصيدة /شتاء ريتا الطويل/ حيث شكل درويش وخليفة عبر ما يقارب ثلاثين عاما من الغناء والقصيدة انموذجا يصعب تكراره في نقل قصيدة الحداثة العربية الى مزاج واسع من جمهور عربي عريض تكنى بهذه التجربة وحفظها عن ظهر قلب وهذا ما عبر عنه الفنان خليفة في حفلاته مؤخرا على مسرح قلعة دمشق عندما دعا جمهوره هناك لاحياء ذكرى محمود باغنية كتبها الشاعر لامه هي تعاليم حورية التي قدمها مارسيل تحية للشاعر في ذكرى رحيله الثاني.

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة