دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
لعل الاستنتاج الرئيسي الذي يمكن استخلاصه من حصيلة لقاءات وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو في بيروت هو ان أنقرة أحرقت كل مراكب العودة الى الشواطئ السورية، وحشرت نفسها في زاوية ضيقة لا تحتمل سوى خيار من اثنين: الربح الكامل او الخسارة الكاملة.
لم يعد هناك من مساحة في الحسابات التركية لمنطق التسوية أو الحل الوسط، بعدما قررت انقرة ان تصبح المعركة التي تخوضها مع النظام السوري معركة حياة او موت، لا مكان فيها للأبواب الخلفية ومخارج الطوارئ، ولا تحتمل نصف إنتصار أو نصف إنكسار، بحيث أصبح سقوط النظام، هو الممر الوحيد والإلزامي لـ"خروج آمن" للقيادة التركية من هذه المواجهة، وكل شيء عدا ذلك يعني الهزيمة.
ولذلك، لا يبدي رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وفريقه حماسة لأي نوع من أنواع الوصفات السياسية التي من شأنها أن تقود الى تعويم نظام الرئيس بشار الأسد وإعادة الاعتبار إليه، بما فيها وصفة المبادرة العربية التي يراهن الأتراك على سقوطها عاجلاً أم آجلاً، مفترضين أن الرئيس السوري لم يعد يستحق منحه المزيد من الفرص والوقت المستقطع، نتيجة إصراره على مواصلة سياسة المناورة.. بالذخيرة الحية.
لكن هذه الاندفاعة التركية الجامحة، وبرغم انها تعكس ظاهرياً صلابة في الموقف والخيار، إلا انها باتت تعبر في جوهرها عن "مأزق" حقيقي، بسبب العجز عن استثمارها الحسي على أرض الواقع، حيث تبين أن موازين القوى - سورياً وإقليمياً ودولياً - هي أكثر تعقيداً مما كان متوقعاً.
وإزاء هذه المراوحة في المكان، انزلقت أنقرة الى مستنقع الاستنزاف الذي يتسبب يوماً بعد يوم بتآكل مصداقيتها وهيبتها، بعدما اكتشـفت أنها ليست قادرة على مواصلة التقدم الى الأمام مع نجاح الرئيس الأسد في الإمساك بالوضع، تماماً كما أنها ليست قادرة على التراجع الى الوراء تفادياً للتداعيات السلبية التي ستطالها.
وهكذا، يبدو ان الورقة الوحيدة التي ما زال يملكها الأتراك هي ورقة الوقت، حيث يراهنون على ان يلعب عامل الزمن لمصلحتهم وان يداوي نقاط الضعف في الجبهة المعادية للنظام السوري، وصولاً الى تمهيد الطريق امام تدويل الهجوم على دمشق، توطئة للضربة القاضية.
ولأن تركيا وصلت في عدائها لنظام الرئيس الأسد الى مكان تصعب العودة منه، فإن أوغلو لم يتردد في التأكيد أمام بعض الشخصيات اللبنانية التي التقاها في بيروت ان نظام الرئيس بشار الاسد "آيل الى السقوط" عاجلاً أم آجلاً، لا سيما وانه بات يعاند شبه وحيد على ضفة.. ومعظم العالم في قبالته على ضفة أخرى. ورأى أن بقاء هذا النظام سيكون مدعاة لعدم الاستقرار، ليس فقط داخل سوريا وإنما في المنطقة ككل، لافتا الانتباه الى ان تمسك الرئيس الأسد بالسلطة سيؤدي الى تنامي الأزمة الداخلية، وبالتالي تفاقم تأثيراتها على المحيط العربي والإقليمي، وربما ينتهي الأمر الى استدعاء التدخل الأجنبي.
سريعاً، سمع أوغلو الجواب من معارضي هذه المقاربة، وفحواه ان العكس صحيح وان "إسقاط النظام" هو الذي سيطلق حالة من الفوضى في المنطقة وليس استمراره، مع العلم ان "إسقاطه" غير وارد أصلاً، والمعادلة المطروحة هي إما أن يبقى النظام في وضعية مستقرة وإما ان تندلع مواجهة مفتوحة في المنطقة، لا أحد يمكنه ان يقدّر مسبقاً مداها وعواقبها.
وفي ما بدا أنها "حقنة تخدير" موضعية أو "حبّة مسكنات" سياسية، حاول أوغلو ان يخفف على حلفاء القيادة السورية من "وطأة السقوط" الافتراضي للنظام السوري، معتبراً أن التحولات الجارية في العالم العربي نحو الإصلاح والديموقراطية والتي ينبغي أن تُستكمل في سوريا، من شأنها ان تخدم قوى المقاومة والممانعة وان تحسن شروط الصراع مع إسرائيل.
ورداً على هذه القراءة، قيل لأوغلو بعدما انتهى من التلويح بالجزرة: "من سيحسّن شروط الصراع ويفيد خط المقاومة والممانعة؟ هل هو برهان غليون الذي أعلن صراحة عن نيته فك تحالف سوريا مع إيران وحزب الله في حال وصوله الى السلطة؟ وكيف تظنون أن تغيير النظام الحالي في دمشق سيكون لمصلحة القوى المناهضة لإسرائيل في حين أنه هو الذي وقف الى جانبها منذ عام 1982 وحتى اليوم مروراً بحروب 1993 و1996 و2006، إضافة الى انه تحمل عبء الضغوط المترتبة على احتضانه السياسي لقيادة حركة حماس التي يريد البعض أن يخرجها من العمق السوري الداعم للمقاومة الى موقع آخر. ولعلمكم، ما يراد تحقيقه في سوريا ليس الإصلاح وإنما ضرب خياراتها الاستراتيجية".
وكان لافتاً للانتباه ان أوغلو همّش كلياً دور المجموعات المسلحة في الاضطرابات التي تشهدها سوريا، موحياً بأنه ما من وجود مؤثر لهذه المجموعات، معتبراً ان هناك معارضة شعبية وسلمية هي التي تتحرك بشكل اساسي لبلوغ الحرية الديموقراطية، وتلقى قمعاً من الجيش السوري والأجهزة الأمنية.
وتعليقا على هذا الإستنتاج، قيل لأوغلو ان محطة "سي أن أن" الأميركية هي التي أعدت تقريراً يرصد بالصوت والصورة وجود مسلحين في سوريا، وهناك معطيات مؤكدة حول تسلل العناصر وتهريب السلاح إليها عبر الحدود التركية واللبنانية. وأضاف من تولى الرد على الوزير التركي: المستغرب أنكم تعتبرون ان كل من يتحرك في الشارع ينتمي الى المعارضة الديموقراطية والسلمية، فعلى أي أساس تضعون المعايير، وكيف يكون سلمياً من يستخدم السلاح ويقتل المدنيين، وكيف يكون ديموقراطياً وإصلاحياً من يتلقى الأوامر من الخارج ويرفض الرأي الآخر، وكيف تكون المعارضة شعبية في حين ان الكثيرين من رموزها لا يستطيعون تسيير مظاهرة حقيقية ضد النظام، بينما يتظاهر مئات الألوف تأييداً للنظام والإصلاحات.. ألا يعني لكم هذا الأمر شيئاً؟
واستشعر بعض الذين التقوا وزير الخارجية التركي انزعاجه من الموقف الصريح الذي عبّر عنه الرئيس بشار الأسد عندما أكد انه سيستخدم الحزم في مكافحة الإرهاب من دون تهاون او مهادنة، الأمر الذي قرأ فيه الأتراك إشارة الى انه سيضرب عرض الحائط الضغوط الدولية والإقليمية التي يتعرض لها لوقف العمليات العسكرية. كما لامس أوغلو الخلاف القائم مع إيران حول كيفية التعامل مع الملف السوري، مشيراً الى ان طهران ترى انه من الممكن تطبيق الإصلاحات تحت مظلة نظام الرئيس الاسد.
المصدر :
عماد مرمل/ السفير
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة