دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
تتزايد المؤشرات في الأسابيع الأخيرة على أن واشنطن تعيد النظر في موقعها العسكري داخل سوريا، وذلك وسط تقارير تتحدث عن تحركات أميركية في البادية وتداول معلومات حول احتمال إنشاء قاعدة قرب العاصمة دمشق. اللافت أن هذه الأنباء جاءت بعد زيارتين متتاليتين لقائد القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم)، الأدميرال براد كوبر، إلى دمشق في منتصف أيلول ومطلع تشرين الأول، في سابقة تعكس اهتماماً أمريكياً غير اعتيادي بإعادة صياغة خرائط النفوذ على الأرض السورية.
ورغم أن مصدراً في وزارة الخارجية السورية نفى ما ورد في تقرير رويترز، دون الإشارة للتفاصيل المنفية بكليتها، وهو التقرير المستند إلى ستة مصادر؛ وفق الوكالة الدولية، والذي تحدث عن نية واشنطن إقامة وجود عسكري محدود قرب دمشق، فإن الجانب الأميركي لم يصدر عنه أي تعليق رسمي، فيما تتقاطع معطيات ميدانية وسياسية تُظهر أن احتمالية إقامة قاعدة أميركية جديدة ليست بعيدة عن المنطق ولا معزولة عن السياق الإقليمي الراهن. ففي ظل انشغال موسكو في جبهاتها الخارجية، فالوضع الإقليمي المضطرب، وتراجع أدوار القوى المنافسة، يدفعان واشنطن نحو مراجعة أدوات نفوذها الميداني وتثبيت موطئ قدم جديد يتيح لها مراقبة خطوط التماس الإقليمية وإدارة توازنات القوة في مرحلة ما بعد الحرب، فضلاً عن تزايد الحاجة الأميركية لنقاط ارتكاز مرنة في الشرق الأوسط، وإمكانية أن تعيد واشنطن هندسة حضورها العسكري في سوريا، من موقع الشريك في مكافحة الإرهاب إلى موقع الضابط لتوازنات ما بعد الحرب.
وكشفت وكالة "رويترز"، نقلاً عن مصادر وصفتها بـ "المطلعة"، أن الولايات المتحدة الأميركية تخطط لإقامة وجود عسكري محدود داخل قاعدة جوية قرب العاصمة السورية دمشق، في إطار مساع لتسهيل تنفيذ تفاهم أمني قيد الإعداد بين دمشق وتل أبيب برعاية أميركية. وكشفت مصادر "رويترز"، أن القاعدة المقترحة تقع بالقرب من مناطق في الجنوب السوري، والتي من المنتظر أن تتحول إلى منطقة عازلة ضمن الاتفاق الأمني المزعوم توقيعه في الأيام القليلة القادمة، إذ يُعد حالياً قيد التفاوض بين الطرفين السوري والإسرائيلي، بوساطة إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترمب.
من مكافحة الإرهاب إلى هندسة الاستقرار
منذ عام 2014، ارتكز الحضور العسكري الأميركي في سوريا على مقاربة أمنية عنوانها "مكافحة تنظيم داعش"، وهي المقاربة التي شكّلت الإطار المعلن لعمليات التحالف الدولي ومهامه الميدانية في البلاد. إلا أن الاحتمالات المفتوحة حول امكانية إنشاء قاعدة أميركية قرب دمشق أو في الجنوب السوري تعيد طرح سؤال الدور الأميركي في سوريا في ضوء المتغيرات الإقليمية المستجدة، وما إذا كانت واشنطن تتجه نحو توسيع مفهوم الأمن من مكافحة الإرهاب إلى إدارة الاستقرار وبناء توازنات طويلة الأمد.
وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى الطرح المتداول حول القاعدة المحتملة بوصفه جزءاً من مقاربة استراتيجية تقوم على "الضبط الوقائي" في مواجهة التقلبات الإقليمية، أي تحقيق الاستقرار عبر الموازنة المرنة بين الفاعلين بدل المواجهة المباشرة. وإذا ما تم فعلاً المضي بهذا الاتجاه، فسيعبّر ذلك عن انتقالٍ تدريجي من أدوات القوة الصلبة إلى مقاربة أكثر شبكية تعتمد على الشراكات والتنسيق متعدد المستويات.
إن الحديث عن موقع عسكري أميركي في الجنوب السوري يُقرأ كاحتمالٍ يعكس توجهاً سياسياً قيد التبلور، ضمن مراجعة أوسع لآليات النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط. فبدل الوجود العسكري الكثيف، يُحتمل أن تسعى واشنطن إلى نمطٍ جديد من "الاستقرار البنيوي"، يقوم على مراقبة خطوط التماس الإقليمية وإدارة التفاعلات من موقع الشريك وليس الطرف المباشر. وبذلك، تبقى فكرة القاعدة ــ حتى الآن ــ إطاراً تحليلياً لفهم اتجاه التفكير الأميركي أكثر من كونها واقعاً ميدانياً متحققاً.
هندسة النفوذ الأميركي في سوريا
وتثير الأحاديث حول احتمال إنشاء قاعدة أمريكية في الجنوب السوري تساؤلات أوسع عن طبيعة التموضع العسكري الأمريكي في سوريا، وما إذا كانت واشنطن تتجه نحو إعادة توزيع أوزانها الميدانية بما يتناسب مع تحولات البيئة الإقليمية. فاحتمالية انتقال بعض عناصر الثقل العسكري من العراق إلى الأراضي السورية، وإن بقيت في إطار الطرح غير المؤكد، تبدو منسجمة مع مراجعة أعمق تنفذها الولايات المتحدة لآليات وجودها في الشرق الأوسط، تقوم على الانتقال من التموضع الثابت إلى التموضع المرن.
حيث يُحتمل أن تنظر واشنطن إلى الجغرافيا السورية، في حال تبلور مشروع القاعدة فعلاً، كمساحة استراتيجية أكثر اتساعاً لإدارة التوازنات. فالموقع المحتمل قرب العاصمة لا يمنح ميزة عسكرية مباشرة بقدر ما يوفر نقطة مراقبة متقدمة على خطوط الاتصال الإقليمية الممتدة من العراق إلى لبنان مروراً بالأردن، أي على ما يمكن تسميته في الأدبيات الاستراتيجية بـ"قوس الديناميات الإقليمية".
وبهذا المعنى، فإن إعادة الانتشار ـ إن حدثت ـ ستكون ذات وظيفة تنظيمية تتصل بتوزيع الموارد والقدرات. وفي المستوى النظري، تنسجم هذه المقاربة مع ما يعرف في دراسات الأمن المعاصر بنموذج "التموضع الذكي"، الذي يدمج بين المرونة الميدانية والقدرة السياسية على الاستجابة السريعة للمتغيرات، دون الانخراط في وجود عسكري كثيف أو دائم.
ومن زاوية أخرى، قد تعكس الاحتمالية المطروحة فهماً أمريكياً متقدماً لمعطيات "الاستقرار المتقاطع"، أي إدارة شبكة من العلاقات الميدانية والسياسية عبر نقاط محدودة لكن عالية التأثير. بهذا، لا يمكن قراءة فكرة القاعدة المحتملة بوصفها عودة إلى نمط الانتشار التقليدي، إذ ستأتي كجزء من تحول أوسع في هندسة النفوذ الأمريكي في المنطقة. فواشنطن ـ وفق هذا المنطق التحليلي ـ تسعى إلى أن تبقى فاعلاً منظِّماً ضمن البيئة الإقليمية، قادراً على الموازنة بين المتغيرات المحلية والتفاعلات العابرة للحدود.
إعادة التموضع العسكري الأميركي
في حال تَحقَّقت احتمالية إنشاء قاعدة أمريكية في الجنوب السوري أو قرب العاصمة، فإنّ الدلالة الأهم لن تكون عسكرية بحتة، وإنما سياسية ورمزية بالدرجة الأولى. إ
ذ ستمثل الخطوة المحتملة انتقالاً في فلسفة الحضور الأمريكي من منطق التدخل العملياتي إلى منطق التموضع الرمزي داخل المجال السيادي السوري. فوجود من هذا النوع لا يُقاس بحجمه الميداني فقط، وإنما بقدرته أيضاً على إعادة تعريف موقع الولايات المتحدة في معادلة سوريا ما بعد الحرب، أي التحوّل من مراقب خارجي إلى طرفٍ مؤثرٍ في هندسة التسوية.
من منظور العلاقات الدولية، تعكس هذه المقاربة ما يُعرف بنظرية "القوة الرمزية"، حيث يصبح الوجود العسكري وسيلة لبناء شرعية نفوذ تتجاوز البعد الميداني إلى ما يمكن تسميته بـ"السيطرة عبر التمثيل". فمجرد تموضع أمريكي محتمل قرب العاصمة السورية، حتى ولو ظل في مستوى رمزي أو تنسيقي، قد يعيد تعريف علاقة دمشق بالسلطة الانتقالية في دمشق ضمن إطار الشراكة الأمنية.
وفي هذا الإطار، يمكن فهم النقاش حول القاعدة المحتملة كجزء من إعادة تشكيل أوسع للعلاقات الأمريكية–السورية، تقوم على مبدأ "التفاعل المنضبط" الذي يوازن بين ضرورات السيادة ومتطلبات الأمن الإقليمي.
فالولايات المتحدة، في هذه القراءة، تسعى إلى ضمان حضور منظَّم يتيح لها إدارة التوازن بين القوى الفاعلة وعلى رأسها تركيا وإسرائيل من جهة، ودمشق والقوى المحلية من جهة أخرى.
وبذلك، فإن القيمة السياسية للحضور الأمريكي المحتمل تكمن في رمزيته كأداة لإعادة بناء القواعد الناظمة للعلاقة بين الداخل السوري والمجال الإقليمي، فهو يمكن أن يكون حضور يحمل وظيفة مزدوجة، فهي طمأنة الحلفاء بأنّ واشنطن لا تنسحب من مسرح الشرق الأوسط، وإرسال إشارة للخصوم بأنّ استقرار سوريا، بمفاهيمه الجديدة، لن يكون خارج التوازن الأمريكي.
ومع بقاء الموضوع في إطار الاحتمال، تظل أهميته التحليلية في كونه يعكس توجهاً لإعادة تعريف الدور الأمريكي، كمنسّقٍ لمعادلات الاستقرار الإقليمي في طور إعادة التشكل.
الاستقرار الديناميكي
وإذا ما وُضعت احتمالية إنشاء قاعدة أمريكية قرب دمشق ضمن سياقها الإقليمي الأشمل، يمكن النظر إليها كمؤشر على تحوّل تدريجي في بنية التوازنات التي تحكم المشرق العربي. فالمنطقة تمرّ منذ سنوات بحالة من "السيولة الاستراتيجية"، حيث تتبدّل الأوزان والأدوار بوتيرة أسرع من قدرة القوى التقليدية على تثبيتها. وفي هذا الإطار، يبدو أن واشنطن تسعى إلى ترسيخ موقعها كفاعل منظم داخل هذه السيولة، أي كقوة قادرة على إعادة إنتاج الاستقرار من داخل التحوّل، وليس عبر تجميده أو مواجهته.
وتنتمي هذه المقاربة إلى ما تصفه الأدبيات المعاصرة بـ"الاستقرار الديناميكي"، الذي يقوم على قدرة مستمرة على إدارة التغيّر. ومن هنا، فإن أي وجود أمريكي محتمل في محيط العاصمة لن يُقرأ بمعزل عن إعادة توزيع الأدوار الإقليمية بين الأطراف الفاعلة. فروسيا التي انشغلت بجبهاتها الأوروبية تسعى إلى الحفاظ على نفوذها السوري من خلال ترتيبات مرنة، في المقابل، تتحرك تركيا ضمن استراتيجية "التمدد الوقائي"، فيما تراقب إسرائيل مسار الأحداث من منظور ضمان أمنها الحدودي وتثبيت قواعد ردعها. وسط هذا التشابك، تبرز الولايات المتحدة كقوة توازن أكثر منها قوة مواجهة، تحاول عبر حضورها المحتمل أن تضبط التفاعلات.
فالقاعدة العسكرية، إن أُنشئت فعلاً، قد تُفهم ضمن منطق "التحكم عبر المجال الرمزي" الذي يتيح لواشنطن أن تكون حاضرة ومؤثرة دون تورط وهيمنة. وهذا ينسجم مع التحولات الأوسع في سياستها الشرق أوسطية، القائمة على تقليل الانخراط المباشر مع الحفاظ على نفوذ فاعل في إدارة خطوط الأمن الإقليمي.
وعليه، فإن المعادلة الجديدة التي
قد تتكوّن حول سوريا لا تتعلق بإعادة رسم خرائط السيطرة، وإنما بإعادة
توزيع أدوار الضبط الإقليمي. ومع بقاء احتمال القاعدة في طور التقدير
والتحليل، يمكن القول إن أهميته المفهومية تكمن في كونه تعبيراً عن محاولة
أمريكية لإعادة تعريف "الاستقرار" ذاته؛ استقرار يقوم على المرونة
والتكيّف، في بيئة تتغير معادلاتها بوتيرةٍ لم تعرفها المنطقة منذ عقود.
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة