دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
أدى سقوط نظام الأسد المخلوع في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2028 إلى فتح الباب أمام واحدة من أعقد المعارك الاقتصادية التي تشهدها البلاد منذ عقود، فالتضخم المتسارع، وانهيار الثقة بالعملة الوطنية، وسيطرة المضاربين على السوق السوداء جعلت من الليرة السورية رمزاً للأزمة أكثر مما هي أداة للتبادل وحفظ القيمة. وفي هذا الإطار، طرح المصرف المركزي السوري مشروع إصدار الليرة السورية الجديدة كخطوة مفصلية تهدف إلى استعادة السيادة النقدية، وتجفيف منابع السوق السوداء، وإعادة رسم ميزان القوى الاقتصادية السورية.
دوافع تغيير العملة في سوريا
إن تغيير العملة في سوريا ليس مجرد نقاش أكاديمي أو خيار شكلي لتحسين المظهر، بل هو عملية ضرورية في سياق اقتصاد ممزق خرج للتو من تحت أنقاض نظام دمّر بنيته الإنتاجية والمالية على حد سواء.
فبعد سنوات من التضخم المتسارع والانهيار المتواصل في قيمة الليرة، لم تعد هذه الورقة النقدية تعكس سوى أزمة فقدان الثقة؛ لا المواطن يثق بقيمتها الشرائية، ولا الأسواق العالمية تتعامل بها كعملة قادرة على الصمود.
أحد أبرز دوافع الإصدار الجديد يتمثل في الكتلة النقدية المهربة، فلول النظام السابق هرّبوا عشرات التريليونات من الليرات السورية إلى العراق ولبنان ومناطق أخرى بعد سقوط النظام، ما جعلهم يملكون القدرة على التأثير في سوق الصرف لكون هذه الأموال خارج سيطرة المصرف المركزي السوري.
هذا الواقع خلق مفارقة خطيرة، وهي أن البنوك السورية تعاني نقصاً حاداً في السيولة، بينما السوق السوداء تسبح بوفرة نقدية ضخمة خارج سيطرة الدولة.
لا يقتصر الإصدار الجديد على إعادة تصميم ورق نقدي جديد، بل هو سلاح اقتصادي يهدف إلى تجفيف نفوذ السوق السوداء وكسر قبضة الفلول على حركة العملة. إذ بمجرد فرض فترة انتقالية لقبول العملة القديمة واستبدالها بالجديدة، تصبح الأموال المهربة بلا قيمة ما لم تدخل النظام المصرفي وتخضع لرقابة الدولة وإجراءاتها. عندها يمكن فرض قيود على سقوف الاستبدال، والمطالبة بإثبات مصادر الأموال، وصولاً إلى تجميد أو مصادرة الأموال المشبوهة.
في هذا الإطار، يقول الباحث الاقتصادي الدكتور خالد تركاوي في حديث خاص مع موقع تلفزيون سوريا: "هناك كميات ضخمة من الكتلة النقدية، سواء المهربة أو داخل البلاد، غير معروف مصدرها ولا يوجد تحكم بحركتها، لكونه يجب أن يكون هناك عملية ضبط للعملة من أجل ضمان عدم وجود تهرب ضريبي، أو الاتجار بالبشر أو التهريب". الدافع الآخر لا يقل أهمية، وهو استعادة السيادة النقدية.
لعقود طويلة كان المصرف المركزي مجرد أداة بيد نظام الأسد وصور عائلته، يستخدمه لتمويل العجز عبر طباعة لا محدودة، ما أدى إلى تآكل القوة الشرائية وضرب استقرار السوق. اليوم، تحاول سوريا قلب المعادلة بحيث يكون البنك المركزي هو المرجعية الوحيدة للسيولة، وأن تمارس السياسة النقدية وفق معايير مالية عالمية، بعيداً عن التدخلات السياسية قصيرة الأمد.
وفي هذا السياق، يقول التركاوي: "تحتوي الليرة السورية الحالية على صور لعائلة الأسد، وهي عائلة شاركت بقتل الشعب السوري، فمن باب عدم النظر للعملة بازدراء يجب تغييرها وإزالة رموز نظام الأسد". إلى جانب البعد الاقتصادي، فإن القرار يحمل بعداً رمزياً وسياسياً، فكما أن العلم يمثل رمزاً للسيادة الوطنية في أي دولة، فإن الليرة السورية يراد لها أن تكون علامة على بداية مرحلة جديدة، عنوانها نموذج اقتصادي جديد يحوطه الاستقلال المالي والقدرة على إدارة الذات بعيداً عن وصاية السوق السوداء أو بقايا النظام السابق.
الركائز الاقتصادية لنجاح الإصدار الجديد لليرة السورية
إصدار عملة جديدة لا ينجح بمجرد تغيير الورق أو حذف الأصفار فحسب، بل يحتاج إلى منظومة متكاملة من الركائز الاقتصادية التي تضمن ثباتها وتمنع تكرار أخطاء الماضي. وفي الحالة السورية، يمكن تحديد خمس ركائز رئيسية تشكّل العمود الفقري لأي خطوة ناجحة نحو الليرة السورية.
الاستقرار النقدي شرط أولي قبل الشروع في طباعة العملة الجديدة؛ كان على المصرف المركزي أن يحقق نوعاً من الاستقرار في سعر الصرف، ولو بشكل جزئي. وبالفعل، تشير التقديرات الرسمية إلى تحسّن الليرة بنسبة تقارب 35% بعد بدء تطبيق سياسات ضبط السيولة ووقف المضاربات العشوائية.
وهذا التحسن ليس مجرد رقم، بل رسالة بأن السوق بدأ يتجاوب مع الإجراءات الأولية، وهو ما يمنح الثقة بأن إدخال عملة جديدة لن يكون مجرد "تغيير شكلي" يزيد الاضطراب بدلاً من معالجته. فالقاعدة الأساسية هنا أن العملة الجديدة يجب أن تكون نتيجة للاستقرار لا سبباً له، أي أن الإصدار يأتي تتويجاً لمسار إصلاحي لا محاولة قسرية لإخفاء الأزمة.
إصلاح القطاع المصرفي أمر مهم، فلا يمكن لأي عملة جديدة أن تصمد إذا بقي القطاع المصرفي السوري على حاله متمثلاً في بنوك شبه مشلولة، ثقة متدنية من المودعين، وموجات متكررة من السحوبات القسرية.
فالإصلاح المصرفي يعني إعادة هيكلة البنوك، تعزيز قدرتها على تلبية طلبات السحب والتحويل، وضمان حماية أموال المودعين؛ إذ إن هذه الثقة المصرفية هي الجدار الأول الذي يقي الليرة السورية الجديدة من الانهيار المبكر، لأنها تحد من لجوء الناس إلى السوق السوداء وتعيد الدورة النقدية إلى القنوات الرسمية. فتح الباب أمام المصارف العربية والعالمية من أبرز التوجهات الجديدة في سوريا، إذ تم السماح بترخيص مصارف عربية ودولية للعمل في السوق السورية.
فهذه الخطوة تحمل بعدين: الأول تقني، إذ توفر خبرات وأنظمة متطورة تعزز من كفاءة القطاع المالي، والثاني سياسي – اقتصادي، لأنها تمنح العملة الجديدة "شهادة ثقة" إقليمية ودولية، ما يشجع على تدفقات استثمارية ويساعد في كسر العزلة الاقتصادية التي فرضتها العقوبات لعقود. السياسة النقدية الرشيدة والمستقلة ضرورة أساسية، فطباعة النقود كانت في السابق أداة لتمويل عجز النظام البائد، ما أدى إلى تضخم هائل أفقد الليرة قيمتها.
لذلك، فإن النجاح هذه المرة يتطلب التزاماً واضحاً بعدم اللجوء إلى "التمويل بالعجز"، وجعل المصرف المركزي مؤسسة مستقلة لا تخضع لتقلبات المزاج السياسي أو ضغوط النخب الاقتصادية. فالاستقلالية هنا ليست شعاراً فحسب، بل ضمانة أساسية للحفاظ على استقرار الليرة الجديدة ومنع تكرار الحلقة المفرغة من التضخم وفقدان الثقة.
التوازن بين الكتلة النقدية والإنتاج
يقول قانون مصونية القوة الشرائية للعملة: "إن القوة الشرائية للعملة لا تفنى ولا تُخلق من العدم، إنما تتحول من شكل إلى شكل آخر"، فقيمتها ترتبط بكمية السلع والخدمات المتاحة في السوق مقابل حجم النقود المتداولة. لذلك، أي إصدار جديد يجب أن يرافقه دعم للإنتاج المحلي في الزراعة والصناعة، وزيادة المعروض من السلع الأساسية، إضافة إلى إدارة ذكية للاحتياطيات من الذهب والدولار.
بمعنى آخر، لا قيمة لليرة السورية إذا لم يجد المواطن أمامه بضاعة وطنية وخدمات حقيقية يمكن شراؤها بها.
الاحتياجات التقنية واللوجستية لطباعة العملة السورية
تعتبر عملية إصدار عملة جديدة سلسلة معقدة من الخطوات التقنية واللوجستية التي تتطلب تخطيطاً دقيقاً، وتمويلاً ضخماً، وأعلى درجات السرية. فنجاح الليرة الجديدة لا يتوقف فقط على الثقة الشعبية أو الإصلاحات المصرفية، بل أيضاً على قدرة الدولة على إدارة عملية الطباعة والإصدار بشكل منظم ومحكم. البداية تكون مع وضع التصاميم الجديدة التي تحمل الرمزية الوطنية لسوريا.
هذه التصاميم لا تُعنى فقط بالمظهر الجمالي، بل تركز على إدخال تقنيات أمان متطورة تقلل من مخاطر التزوير، بدءاً من العلامات المائية إلى الأحبار الخاصة والخيوط الأمنية، وصولاً إلى الترقيم المتسلسل الذي يتيح تتبع أي ورقة نقدية. فالهدف هو أن تكون الليرة الجديدة ورقة صعبة التقليد، وتزرع الثقة في يد حاملها منذ اللحظة الأولى. الورق المستخدم في الطباعة لا يجب أن يكون ورقاً عادياً، بل يُصنَع وفق بروتوكولات أمنية معقدة تتضمن دمج مواد خاصة تجعل من المستحيل تقريباً تزويره بالوسائل التقليدية. فكل ورقة تحمل "هوية أمنية" تجعل كشف التزوير مسألة بديهية حتى بأبسط الأدوات.
وبحسب الخطة المعلنة، لن يتم الاعتماد على مصدر واحد للطباعة، بل سيتم التعاقد مع مصدرين أو ثلاثة، لغايات تشغيلية وسياسية في آن واحد؛ إذ إن هذا التنويع يضمن تفادي أي مخاطر محتملة في حال تعطلت إحدى القنوات، كما يمنح الدولة مرونة في التفاوض والحفاظ على سرية العملية. بعد الانتهاء من الطباعة، يُتوقّع أن تخضع كل ورقة لعملية "ترقيم" دقيقة، بحيث يكون لكل فئة رقم تسلسلي خاص يتيح مراقبتها وضبط تداولها.
بعدها تأتي مرحلة النقل والشحن، وهي من أخطر المراحل، حيث يتم استخدام بروتوكولات أمنية مشددة لضمان وصول الأموال إلى سوريا دون أي اختراق أو تسريب. إصدار عملة جديدة دون تحضير المجتمع لاستقبالها يعني الفشل منذ البداية، لذلك يجب أن تكون هناك حملة توعية وطنية تشرح للمواطنين تفاصيل عملية الاستبدال، وآليات التعامل مع الليرة الجديدة، وما تعنيه عملية حذف الأصفار أو تبديل الأوراق القديمة.
في الوقت نفسه، ووفقاً للخطة المعلنة، سيتم توزيع العملة الجديدة عبر البنوك، فروع المصرف المركزي، والصرافين المرخصين، بما يضمن وصولها إلى جميع الشرائح الاجتماعية بأسرع وقت ممكن. من المتوقع أن تأخذ عملية استبدال العملة وقتاً بهدف قطع الطريق أمام الفلول والمضاربين الذين قد يحاولون ضخ كتل ضخمة من الأموال المهربة في السوق. وخلال هذه المرحلة، سيتم فرض قيود على سقوف الاستبدال، وطلب إثباتات لمصادر الأموال الكبيرة، في محاولة لجعل أي ثروة مشبوهة بلا قيمة فعلية.
في هذا الإطار، يقول التركاوي: "من المهم ضمان وجود بروتوكول أمني لطباعة العملة ونقلها من بلد الإصدار وحتى دخولها إلى المصارف، كما أن هناك حاجة لتحسين النظام المصرفي وفتح فروع جديدة للبنوك وتسريع الإجراءات ضمنها لتسريع عملية استبدال العملة".
الأبعاد الاستراتيجية والسياسية للعملة الجديدة
كما هو معلوم، فإن العملة ليست مجرد وسيلة للتبادل أو أداة مالية، بل هي رمز سيادي يختصر في داخله موازين القوى الاقتصادية والسياسية داخل الدولة. ولهذا فإن إصدار الليرة الجديدة في سوريا يحمل أبعاداً أعمق من مجرد إصلاح نقدي، ليصبح خطوة استراتيجية متعددة المستويات.
من التحديات الكبرى التي واجهت القطاع النقدي بعد سقوط النظام، سيطرة فلول النظام والمضاربين على الكتلة النقدية الضخمة المهربة؛ إذ جعلت هذه الأموال من السوق السوداء اللاعب الأكبر في تحديد سعر الصرف، وأفقدت الدولة القدرة على التحكم بالدورة النقدية. الليرة الجديدة تعني أن الدولة تعود لتكون المصدر الوحيد للعملة، فتجفف أدوات المضاربة، وتمنع التحكم بالسيولة خارج النظام المصرفي، والنتيجة المتوقعة هي استقرار نسبي في سعر الصرف وتراجع حدة تقلبات السوق السوداء.
المواطن السوري كان الضحية الأولى لفوضى العملة، حيث تحولت أسعار الليرة إلى حالة من عدم اليقين الدائم، فكل يوم له سعر صرف مختلف، وكل سلعة لها تسعيرة غير مستقرة.
وعندما يستعيد المصرف المركزي زمام المبادرة ويضمن استقرار الليرة، فإن أثر ذلك ينعكس مباشرة على حياة الناس من ناحية أسعار الغذاء، الدواء، الوقود، وحتى الخدمات الأساسية التي تصبح أكثر استقراراً، ما يخفف الضغط عن الأسر ويعيد قدراً من الطمأنينة المفقودة. إصدار العملة الجديدة هو رسالة سياسية بأن زمن بقايا النظام المخلوع قد انتهى، ففقدانهم لورقة الضغط المالية التي مثّلتها الأموال المهربة يعني فقدان آخر أدوات نفوذهم الاقتصادي.
بالتالي، يصبح القرار النقدي أداة لتعزيز الاستقرار السياسي وترسيخ شرعية السلطة الجديدة في البلاد. عملية الاستبدال النقدي تمنح الدولة فرصة ذهبية لتصفية الأموال المشبوهة، إذ يُشترط على من يريد استبدال مبالغ كبيرة إثبات مصدرها، وإلا يخاطر بتجميدها أو مصادرتها. هذا البعد الأمني لا يقل أهمية عن الجانب الاقتصادي، لأنه يحرم شبكات الفساد والتهريب من إعادة تدوير أموالها في النظام الجديد.
بعبارة أخرى، الإصدار الجديد يصبح أداة لتجفيف منابع الفساد والاقتصاد غير
الشرعي.
العملة
الجديدة هي أيضاً خطاب موجه إلى الخارج، خصوصاً إلى الشركاء الاقتصاديين
المحتملين من العرب أو القوى الدولية، فهي تعلن أن سوريا الجديدة جادة في
إعادة بناء مؤسساتها وفق معايير مالية عالمية، وأنها لم تعد رهينة اقتصاد
السوق السوداء أو النظام القديم. هذه الرسالة قد تفتح الباب أمام انفتاح
اقتصادي تدريجي وجذب استثمارات تبحث عن بيئة أكثر استقراراً.
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة